ليست المشكلة في أن رغبة انتقام الضحية (السجين) من جلادها (السجان) تطغى على الثيمة العامة لفيلم جعفر بناهي “مجرد حادث”، الذي حصل على جائزة السعفة الذهب في مهرجان “كان” 2025. فذلك شعور يجمع كل المتشابهين في ظروف الخضوع للأنظمة التسلطية، ويتحول مع الوقت إلى حالة دفينة لدى البعض، بينما يصبح مادة إبداعية لدى المتمكنين من أدوات التعبير المتعددة.بل إن المسألة التي تحتاج للتفكير ملياً تبدأ من أن بناهي نفسه يتجول في مسألة حقوقية تتصل بمفهوم العدالة الانتقالية، في حين لا تزال الحالة القمعية راسخة وتهدده شخصياً في حال عاد إلى بلده، وقررت الحكومة الإيرانية محاسبته على تصويره لفيلمه الذهبي من دون الحصول على إذن التصوير المطلوب. أي أنه يصنع حالة إبداعية تواجه القامع، وتؤشر إلى قضية حساسة تتعلق بمحاسبة المجرمين الصغار الذين يتولون إرهاب السجناء وتعذيبهم، بما يشكل محاسبة للنظام نفسه الذي يريد السيطرة على المجتمع ونخبه الفكرية والإبداعية.
وفي مقاربة سريعة وذات معنى مع الحالة السورية، فإن الفرق بين آليات القمع لدى نظام الأسد وبين داعميه في طهران، يتمثل في أن الأخيرين يميلون إلى سجن مخرجي السينما بعد محاكمتهم، بينما فضّل الأسديون إخضاع المبدعين المعارضين لخيار واحد من ثلاثة، إسوة بكل السوريين الثائرين: إما أن ترحل خفية عن أجهزة الأمن، أو تُقتل برصاصة قناص في أحد الاحتجاجات ليُقال إن العصابات المسلحة قامت بتصفيتك، أو أن تُعتقل ويغيب مصيرك في العتمات ليُسجَّل حضورك كاسم ورقم في لوائح تضم عشرات آلاف المعتقلين والمختفين قسرياً.
لم يجرؤ المثقفون الذين بقوا تحت سلطة الأسديين، على مواجهة سياساتهم، إلا في استثناءات قليلة، فضّل أصحابها أن يكتبوا ما يريدون ضمن سقف منخفض. لأن الحالة العامة كانت تفرض استحالة الاعتراض الصريح، ولم يكن من المفيد التنديد بالمثقفين الصابرين، فهؤلاء خضعوا لظروفهم، بينما تركز تشهير الثائرين على أولئك الذين شاركوا في أفعال الدعاية للنظام.
لم يكن مطلوباً من المثقف أن “ينتحر” عبر كتابة رواية أو مسرحية أو قصيدة تندد بالمجازر، بل كان مطلوباً منه ألا يساعد في الدعاية لسردية القتلة. بينما تولى الناجون من الملاحقة الأمنية، عبر الفرار إلى الخارج، كتابة تفاصيل ما جرى. فظهر هؤلاء وكأنهم ناجون من سجن كبير، يتراصفون في وقفتهم مع أدباء كانوا سجناء في تدمر وصيدنايا وعدرا وغيرها من المعتقلات، ودوّنوا تجاربهم فحكوا فيها عن سجانيهم الذين مارسوا ضدهم أبشع أنواع التعذيب.
تسجيل الشهادات إبداعياً، وكونه مزجاً بين الواقع والخيال، قد لا يُعتدّ به في طور المحاكمات المأمولة ضمن سياق العدالة الانتقالية، والأمر ذاته ينطبق على فيلم جعفر بناهي الذي يحرضنا على طرح الفكرة، لكنه يجعل القضية القانونية حاضرة أمام الجميع. وفي الحالة السورية تحديداً، يصبح من الواجب التذكير بأن المرحلة الانتقالية تتطلب إعادة نظر جذرية في المؤسسات الثقافية، وربما التعامل معها بحالة طوارئ فكرية، طالما أن ثمة شخصيات كانت تشغل مواقع فاعلة فيها، وتمارس دور التطبيل والدعاية للسياسة الإجرامية الأسدية.
كما أن الادعاء بمجهولية القائمين على المرحلة الانتقالية، يؤدي في المحصلة إلى مشهد ساخر لطالما تم الحديث عنه، يخص مثقفاً انتهازياً نمطياً لم يؤيد الثورة لأنها لا تشبه الثورات التي قرأ عنها، وبالتالي لن يوافق على تولي بعض مثقفيها لجان تسيير الأعمال، فهؤلاء أيضاً بالنسبة إليه لا يشبهون المثقفين الثائرين الذين سجلت كتب التاريخ سيرهم الذاتية.
نتحدث اليوم عن مرحلة تنتهي في مؤدياتها نحو طرح المسامحة بعد العدالة، وبعد اعتراف المذنبين بما ارتكبوه على هامش المجزرة. بينما يطمح المثقف النمطي -في مفارقة صاخبة- إلى مشهد إبداعي مفصّل على المقاس الشخصي، تتولاه نخبة من المثقفين الذين لم يساهموا في صناعته.
ذات يوم، تحدث الكاتب محمد برو، الذي عاش شبابه في سجن تدمر ونجا من المشنقة وسجّل الحيثيات في كتابه “ناجٍ من المقصلة”، عن أنه قابل ذات يوم جلاده في الشارع، لكنه تجاوز القصة ولم يفعل معه شيئاً، بينما قام المحامي أنور البني بتسجيل الواقعة، كمدخل شخصي لحملة ملاحقة جلادي الأسد في أوروبا.
الفرق بين نموذج جعفر بناهي، والنماذج السورية التي دوّنت تجاربها، أن مساحة الخيال تأخذ المبدع الإيراني إلى عتبة الانتقام، بينما يناضل التيار المدني الديموقراطي السائد بين هؤلاء في الحالة السورية، إلى منع الانتقام والمضي في المسار القانوني. وفي هذا الجهد، يحضر المثقفون الذين لا يريدون من السلطة أن تعتقل، وأن تنتقم لهم عمّا عانوه من أفعال زملاء لهم، ساهموا في تثبيت سلطة الديكتاتور بعد ارتكابه المجازر منذ العام 2011، بل يدفعون نحو بناء رأي عام متماسك يمنع التجربة الدموية من التكرار. وبينما يسعى البعض الآخر إلى تلمس البراءة من المرحلة السابقة، من خلال التعريض بالثورة ومثقفيها، يفرض واقع الحال إملاءات مُلحّة تتعلق بضرورة بناء مشهد ثقافي حر، لا يتبع قرارات وتوجهات السلطة.
الإبداع في زمن القمع ليس ترفاً ولا مجازفة عبثية، بل فعل مقاومة يحمل في داخله تصوراً لمستقبل مختلف. وبينما يقدم جعفر بناهي عملاً فنياً يضع الجلاد في مواجهة الكاميرا، تبقى الحالة السورية تطالب بجهد أعمق: ليس فقط في توثيق الجريمة، بل في تفكيك المنظومة التي أنجبتها، بما في ذلك المؤسسة الثقافية نفسها. إذ لم يعد كافياً التلويح بالمثالية أو التنصل من مسؤوليات المرحلة الانتقالية، فالثورات لا تنتظر اعتراف النخب التقليدية بها كي تكتمل، بل تبني مشروعها الجديد على أنقاض الصمت والإنكار. وفي هذا السياق، لن تكون العدالة الانتقالية مجرد قوس قانوني يُغلق الملفات، بل ساحة أخلاقية يُحاسب فيها الجميع، لا بهدف الانتقام، بل من أجل ألا يُعاد إنتاج الجريمة بوجه مختلف، وبأقلام أنعم.
