من مفردتين دالّتين يتألف عنوان رواية الكاتب الدنماركي ستي دال – أيه “عاشق وجودي”، التي تتناول سيرة حياة الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد (كيركغور)، تاريخيّاً وتخييليّاً في آن. لقد أريد للعنوان، الذي اختير بعناية، أن يكون بشقّيه غوصاً في تفاصيل “العشق” و”الوجودية” على وجه الخصوص، باعتبارهما أهمّ مفتاحين وموضوعين ومادّتين في تجربة كيركغارد الخصبة المتشابكة.
في الرواية الضخمة التي ترجمها إلى العربية الشاعر والمترجم العراقي الدنماركي سليم العبدلي، وصدرت عن دار “خطوط وظلال” الأردنية في أربعمئة وخمس صفحات، يعيد ستي دال – أيه رسم ملامح كيركغارد (1813-1855) من منظور إنساني في الأساس، كبطل للدراما السردية التي يشكّلها المؤلف وينسج خيوطها.
ومن خلال تخليق الأحداث وتصاعدها، وتفاعل كيركغارد مع بقية الشخوص، وعلى رأسهم والده الذي أثر فيه كثيراً في طفولته وصباه، وخطيبته ريجين أولسن (1822-1904) التي أحبّها بجنون ورفض الزواج بها، تتكشّف الطبقات العميقة في شخصية كيركغارد، والجوانب الباطنية والوجدانية والشعورية والنفسية لديه.
غلاف الرواية.
كذلك تتجلى في الوقت نفسه، على امتداد مواقف الرواية ومشاهدها، آراء كيركغارد وأفكاره كفيلسوف وشاعر ولاهوتيّ وناقد اجتماعي ومؤلف دينيّ متعمّق. وهو الذي يُعزى إليه في كتاباته وأطروحاته الجريئة انتقاد الكنيسة البعيدة عن حقيقة المسيحية، وتأسيس بذرة مدرسة “الوجودية المؤمنة”، التي تطوّرت لاحقاً في القرن العشرين على أيدي سارتر وكامو وياسبرز وبارث وآخرين إلى الفلسفة الوجودية الواقعيّة.
لغز الحياة والموت
على رغم ارتداد رواية “عاشق وجودي” إلى السنوات الأولى المأسوية من حياة كيركغارد، في صغره، واسترجاعها قصة عشقه وخطوبته وانفصاله عن خطيبته في شبابه، فإن أحداثها تبدأ عام 1855، قبيل وفاة كيركغارد بأشهر قليلة.
وقد شعر كيركغارد حينها بأعراض الشيخوخة المبكرة، وعمره لا يتجاوز الاثنين والأربعين عاماً. ومن ثم، دفعته آلامه الجسدية، وقلقه الروحي أيضاً، إلى الذهاب إلى المستشفى ليجري بعض الفحوص. وظل هناك طريح عذاباته في الفراش، بعد عجز الأطباء عن فهمه وعن شفائه، ليموت في النهاية وحيداً، وهو الذي قضى رحلة عمره طامحاً إلى التوصل إلى حل “لغز الحياة”.
لقد بدا كيركغارد حال ذهابه إلى المستشفى وكأنه مريض بالاستسلام وليس مصاباً بداء عضوي واضح، إذ يقول للطبيب المعالج “عملي الروحي هو عمل مجهد للغاية، أشدّ من أن تتحمله بنية جسدي النحيلة هذه. مرضي مميت، وموتي ضروري من أجل الرسالة التي استنزفت معظم قواي الروحية، ولم يكن لأحد سواي أن يحملها، فقد خُلقتُ وعشت حياتي من أجلها، ولكن الأمر يتطلّب ذهناً حادّاً، لم تعد لي طاقة له”.
بدوره، يردّ الطبيب المندهش من حالة لم ير مثلها من قبل، وهو يلوّح بريشته في الهواء مستغرباً “لا يوجد إنسان في العالم يرغب في الموت. هل تريد أن تموت، أهكذا عليّ أن أفهم كلامك؟!”.
ألاعيب الزمن
من تداعيات هذه الحالة الانهزامية في أيام كيركغارد الأخيرة، يتنقل المؤلف أو الراوي العليم عبر تقنية الفلاش باك ولعبة الارتدادات والتداخلات الزمنية بين سائر اللحظات والأوقات المؤثرة التي عاشها كيركغارد في حياته التي لم تمتدّ طويلاً، ولكنها كانت حافلة ومشحونة بالأحداث.
وهكذا، تستعيد الرواية علاقة كيركغارد الشائكة بوالده، إذ كان أبوه يعامله بندية وكأنه فرد كبير، رغم أن كيركغارد كان أصغر إخوته السبعة (أربعة ذكور، وثلاث إناث). وقد توفي خمسة من إخوة كيركغارد قبل أن يتجاوز العشرين، كما رحلت أمه. ولطالما حدّث والد كيركغارد ابنه عن سبب موت أفراد عائلته من وجهة نظره، إذ كان الأب يؤمن بأن هذا الفقدان المتكرّر يرجع إلى غضب الرّب الشديد عليه، عقاباً له على الخطايا الكبرى التي اقترفها في شبابه. وظلت هذه الفكرة (خطيئة الأب ولعنة الإله) تسيطر على كيركغارد طوال حياته، وتوجّه سلوكه ومعتقداته.
لوحة تمثّل سورين كيركغارد.
كذلك تترصد الرواية بأناة تفاصيل قصة العشق التي جمعت كيركغارد وخطيبته ريجين أولسن، وهي القصة التي لم تكتمل بالزواج، وذلك لأكثر من سبب. فمن ناحية، انتصر كيركغارد لفلسفته التي ترى أن على الرجل أن يتغلّب دائماً على اشتهائه المرأة التي يحبّها، فلا تكون هذه الشهوة دافعاً أبداً إلى الزواج.
ومن جهة أخرى، فإن كيركغارد وجد أن السوداوية التي تملأ حياته وتطغى على فلسفته تجعله غير مناسب للزواج، كما أن الفيلسوف المعارض أراد أن يتمرّد على منظومة تعاليم القرن التاسع عشر بأكملها ليؤكّد حريته واستقلاله وذاتيته. ولقد كانت المنظومة التي تصدى لها بأفكاره الثورية تنحاز إلى الجماعة على حساب الفرد، وتقدّس الزواج كفكرة وممارسة.
إرث ثريّ
وإذا كان الإرث الثريّ الذي خلّفه كيركغارد، في الفلسفة والأدب والنقد الاجتماعي والديني، يمكن التعاطي معه من خلال مجموعة مؤلفاته المعروفة، ومذكّراته، وكل آثاره التي لقيت اهتماماً عالميّاً واسعاً بعد وفاته، فإن هذا النتاج كلّه يصير أقرب إلى المتلقّي وأبسط وأيسر في استقباله وفهمه والتجادل الإيجابي معه، حال وروده في السياق الإبداعي لرواية “عاشق وجودي”. وهذا السياق الإبداعي الشيّق لم يعكر صفوه واسترساله وتدفقه السلس غير الأخطاء اللغوية والتركيبية غير الهينة التي تسم ترجمة العمل إلى العربية، من أوله إلى آخره، من دون إجراء مراجعة تخصصية على ما يبدو.
مع ذلك، تتناثر برشاقة على امتداد صفحات الرواية جملة آراء كيركغارد ومعتقداته وأفكاره وأحكامه الأخلاقية والإيمانية والجمالية في سائر المجالات، وهي التي يصفها المترجم بأنها “تشكل حجر أساس للمعرفة الحديثة”.
وتتجسد هذه الالتماعات من خلال أحاديث كيركغارد المونولوجية المطولة مع ذاته، واسترجاعه ذكرياته، وحواراته الكثيرة مع الآخرين، إضافة إلى أحلامه وتخيلاته وصراعاته الداخلية وهواجسه بشأن المرض والقلق والخوف والموت وغير ذلك.
تذوب أفكار كيركغارد، صاحب “إما/أو” و”يوميات غاوي النساء”، و”الخوف والرهاب”، و”مفهوم القلق”، و”مراحل على درب الحياة”، و”المرض نحو الموت”، و”المدرسة المسيحية”، و”فحص ضمير العصر”، في الفضاء الروائي الذي يستعيده حيّاً من لحم ودم، لا ليقول كلماته فحسب، وإنما ليطل على قرّاء العصر الحالي بوجهه الفادح الصادم الذي يعيد النظر في كلّ شؤون الحياة وأمور الوجود.
تُبرز الرواية، على سبيل المثال، من محطات كيركغارد المثيرة، كيف أنه نازل بقلمه الفلاسفة السابقين عليه، مخالفاً إياهم بجسارة، وفي طليعتهم الفيلسوف الألماني البارز هيغل، وأيضاً كارل ماركس، وإنغلز، وغيرهم. وكان دافعه الإيماني المحرك له دائماً في انتقاداته الآخرين من أشخاص ومؤسسات، حتى الكنيسة ذاتها وقساوستها وعمّالها “الكسالى” ممن استنكر مبادئهم وأداءهم بقوة.
وتتضح من خلال الرواية أيضاً طبيعة مبدأ الوجود لدى كيركغارد في سياق رؤيته الإيمانية التي تأثر فيها بأسلوب سقراط ومفارقاته، وبعلم النفس. وقد أهّلته هذه الذخيرة الواعية لطرح تساؤلات جادة حول ماهية الإنسان وسبب وجوده في الحياة، الأمر الذي جعله في مصاف كبار المفكرين الطليعيين السابقين لعصرهم.