ما الذي يجعلنا ننهض من بين الركام، نتسامى على الألم، ونُصرّ على ما نحبّ رغم أنف العالم؟ ما الذي يجعل قلباً صغيراً يواجه الريح بيدَين عاريتَين، لأنه فقط يريد شيئاً، يشتهيه، ويتوق إليه، ويراه حقّه، حتى لو رآه الجميع ضرباً من الجنون؟… إنها الشجاعة.

لكنها ليست الشجاعة التي تُروى في كتب المعارك والبطولات الكُبرى. بل تلك الشجاعة الصامتة، اليومية، التي لا يصفّق لها أحدٌ، ولا تكتب عنها الصحف. الشجاعة التي تتجلّى في الإصرار والإلحاح على الحبّ، وفي التمسّك بما نشتهي بجوارحنا كلّها، رغم الصعوبات والخيبات ونظرات الازدراء أو التهكم أو الشفقة.

كتبتُ ذات قصيدة بعيدة: “لتعلّم الشجاعة طريقة واحدة/ ‏أن تصرّ على حبّ ما تشتهي ‏بقوة قصوى”. لم تكن مجرّد عبارة شعرية عابرة، بل كانت مفتاحاً لفهم نوع من الشجاعة التي لا ترفع رايات، بل ترفع أرواحاً من السقوط. أن تحبّ ما تشتهي، وأن تصرّ على هذا الحبّ بقوة قصوى، ليست رفاهيةً (ولا نزوةً) عابرةً، بل فعل مقاومة. مقاومة الانسياق والتنازل، ومقاومة أن تصبح شخصاً آخر غير الذي خُلقت لتكونه.

كثيرون يشتهون شيئاً ثم يخجلون من ذلك الشغف، أو يقتلونه في منتصف الطريق، يطفئون نيرانه كي لا يُقال عنهم حالمون، مغرورون، أو حتى سذّج. كم من روح أُطفئت، فقط لأن صاحبها لم يجرؤ على الإصرار؟ كم من حلم مات لأن صاحبه صدّق أنه لا يليق “أنا لا أتنازل”. أمّا من يصرّ على ما يشتهي من أعماقه، فهو يفعل ذلك لأنه لا يعرف طريقاً آخر للنجاة. لأن هذا الشيء، هذا الحبّ، هذه الرغبة، هي ما تعطي حياته معنى، ما يجعله يصحو كلّ صباح ويقول: نعم، ما زلت هنا، ما زلت أحاول.

ليست كلّ الشهوات ماديةً. كثير منها عميق، إنساني، وجودي. تشتهي أن تكون رسّاماً، أو كاتباً، أو أن تعيش في مكان معيّن، أو تحبّ شخصاً بعينه، أو تمشي طريقاً لا يفهمه أحد سواك. وهذه الشهوات (إن صحّ التعبير) هي مرآة نفسك الحقيقية. النفس التي وُلدْتَ بها قبل أن تبدأ الحياة بقصقصتها، وقولبتها، وتعليمها أن تصمت. أن تعتذر عن وجودها.

وهنا تأتي اللحظة الحاسمة: هل ستنحني، أم ستقف؟ هل ستكبت هذا الشوق، أم ستقاتل من أجله؟ لأنّك حين تصرّ على حبّ ما تشتهي، فأنت لا تدافع عن رغبة فقط، بل عن نفسك. أنت تُعلن بصوت غير مسموع: هذه حقيقتي، هذا أنا، ولن أعتذر.

لكن الطريق ليس سهلاً، ولا رومانسياً كما نحبّ أن نتخيّل. الإصرار يتطلّب جَلداً. يتطلّب أن تراك الأيام وأنت تنكسر وتلملم نفسك مرّة بعد أخرى، أن تتحمّل العزلة، أن تواجه الشكوك، وربّما أن تقف ضدّ من تحبّهم لأنهم لا يفهمونك. كثيراً ما يأتي الثمن في هيئة فشل مؤقّت، أو خسارة مؤلمة، أو سخرية جارحة. لكن من قال إن الشجاعة لا توجع؟ الشجاعة ليست الابتسامة في وجه العاصفة، بل الوقوف رغم الرعب. رغم الرغبة في الهرب.

وقد تطول الطريق. قد تتغيّر الأحلام في شكلها، أو تتبدّل الشهوات، وهذا طبيعي. الإنسان لا يُخلَق ثابتاً، لكن ما يبقى هو هذا الإصرار المقدّس على ألا تحيا حياةً بلا طعم، بلا توق، بلا اندفاع نحو شيء يشعل فيك النار. أن تظلّ وفيّاً لما يشبهك، ولو وحدك، ولو بصمت، ولو داخل غرفة صغيرة لا يراك فيها أحد. أن تختار بملء إرادتك أن تحبّ ما تشتهي، وأن تحمي هذا الحبّ كأنّه آخر ما تملك.

هكذا نصنع أنفسنا. لا عبر الانصياع، بل عبر التمسّك. لا عبر التراجع، بل عبر الإصرار. لا عبر الرضا بالمتاح، بل عبر التوق لما نراه مستحيلاً، ونقول: بل أستحقه.

لن يتذكرك الناس لأنك كنت واقعياً أو متوازناً أو “تفهم الدنيا”. سيتذكرونك لأنك كنت شجاعاً بما يكفي لتحبّ ما تشتهي، ولأنك رفضت أن تعيش حياةً مستعارةً، لأنك كنت أنت.. حتى النهاية.