منذ الفصول الأولى، ترسم دوريا صورة عائلتها المهجّرة من أنطاكيا وإزمير إلى حلب عقب «بوغروم إسطنبول»، وتستعيد عبر صوت أنثوي مفعم بالحواس طبقات متراكبة من الفقد، والنزوح، والحنين، في سردية تدمج الخاص بالجماعي، مستعينةً برموز يومية عميقة كالصابون، والبيض المزيّن، والحقيبة، لتستحضر معاني الكرامة، والذاكرة، واللغة الممزقة بين الثقافات. تحضر اللغة هنا كوسيط للانتماء والتمسّك بالهوية، إذ تتقن دوريا لغات عدة، دون أن تجد انتماءً كاملًا لأي منها، في دلالة على هشاشة الهويات المركّبة.
في المقابل، يخوض إيلي رحلة داخلية معقدة تبدأ من طفولة مضطربة في مدينة الميناء التابعة لمدينة طرابلس اللبنانية ضمن عائلة يسارية فقيرة، لينتقل تدريجيًا إلى أسئلة كبرى حول الإيمان، والكهنوت، والحرية الشخصية. تتصاعد أزمة إيلي بين ضغوط العائلة وصدامات المجتمع، ليجد نفسه في لحظة مصيرية يتخلى فيها عن يساريته لصالح البحث الروحي في الكنيسة، لا بدافع الطمأنينة، بل تحت وطأة قلق وجودي عميق. مشاهد التحول الروحي، لا سيما طقوس الرسامة الكهنوتية، تُقدَّم بقوة جمالية وفلسفية، ويتجلى فيها صراع المعنى بين الدعوة والهرب، بين الإيمان والشك، ليعيد إيلي في لحظة ذروة صياغة التطويبات بصورة معكوسة تكشف تناقض الموعظة مع الواقع.
أما دوريا، فتعود في فصول لاحقة كصوت منهك بالأمومة والشيخوخة وفقدان الأحبة وسط حرب تنهش جسد المدينة والذات. وتبدو دوريا ذات شخصيةً قوية، تستجمع الأمل وتستخرجه من رماد الحياة اليومية عبر تفاصيل دقيقة: ساعة ذهبية متوقفة، مفرش مائل، أحمر شفاه، لتصوغ بذلك عالمًا تتلاشى فيه الفواصل بين الخاص والعام، حيث يصير البيت نفسه مسرحًا لتفكك الوطن وضياع المعنى. أما الرحيل في النهاية فليس خلاصًا، بل ضرورة قاسية تخضع لها أمام سطوة الزمن وتحولاته.
تبلغ الرواية ذروتها في الفصلين الرابع والخامس مع إيلي وقد تحول من كاهن طقسي إلى فاعل اجتماعي يسعى لتأسيس مدرسة بديلة لأطفال الأحياء المهمشة في بيروت. هذا المشروع يصطدم بالخذلان المؤسسي، ويتوج بمشهد حرق الكنيسة الذي يلخّص الصدام بين الحلم الفردي وقيود الواقع. غير أن النص لا ينتهي بمرارة، بل ينفتح على أفق إنساني وروحي جديد من خلال طقوس جماعية تتجاوز الأطر الدينية الضيقة، ويصير الإيمان تجربة منفتحة، جامعة للرجاء وسط العدم، فيتكرس إيلي كفاعل اجتماعي لا كهوية طقسية.
أسلوبيًا، تتراوح الرواية بين السرد الشعري المتأمل، واللغة الغنائية الرزينة، والانعطافات التأملية، وتتسم بقدرة لافتة على التقاط تفاصيل اليومي وتحويلها إلى رموز تخدم السرد. توظف الكاتبة إيقاعات متكررة، وانقطاعات مونولوجية، وصورًا حسية كثيفة تمنح النص بعدًا جماليًا وفلسفيًا معًا. وتتقاطع الأزمنة والأمكنة بلا فواصل حادة، في محاكاة دقيقة لعمل الذاكرة والمنفى. وتظهر شخصيات الرواية في تنوعها وضعفها ونضجها، لا كأبطال تقليديين، بل كذوات مفتوحة على التحول والهشاشة والصمود.
لا تكتفي «إيلي» بأن تكون رواية عن التهجير أو الدين أو الحرب، بل تقدّم بحثًا فلسفيًا وجماليًا في معنى الانتماء وشروط البقاء والبحث عن الذات وسط تشظيات الهوية والاغتراب. هي رواية الأشياء الصغيرة التي يحملها الإنسان معه حين يُجبر على الرحيل، عن مقاومة النسيان، وعن قدرة الكتابة على إعادة تشكيل المأساة والحنين في مشاهد يومية متجددة.
«إيلي» نص روائي يجمع بين الحميمي والتاريخي، بين العمق الروحي والنقد الاجتماعي، ويعيد تعريف الذات العربية والشرقية في مرآة الفقد والرحيل والتجدد.