ستيفن بوش
يشكّل تطوّر تقنيات الذكاء الاصطناعي تحولاً جذرياً في البنية الأساسية لمنظومات الحياة والعمل، وهو التحول الأعمق منذ اختراع الإنترنت على الأقل. ويعيد هذا التحوّل التقني تشكيل الأنماط اليومية للأفراد والمؤسسات، ويُحدث تغييرات هيكلية، بدأت ملامحها في الظهور، خصوصاً في آليات الحوكمة والإدارة العامة للمجتمعات والدول.
وفي ظل هذا التحول، تتصاعد الدعوات في مختلف الدول المتقدمة، إلى إدراج «مهارات استخدام الذكاء الاصطناعي» ضمن المناهج الدراسية، بل وإعادة هيكلة منظومة التعليم والتقييم بكاملها. ويأتي ذلك اعترافاً بحقيقة مدهشة: أن الذكاء الاصطناعي أصبح قادراً على إنجاز الجزء الأكبر من المهام التي نكلّف بها طلاب المدارس. وفي كل أسبوع تقريباً، هناك رسائل جديدة من جهة أو منظمة تطالب بإجراء هذا التغيير.
هذا الجدل المحتدم، رغم ارتباطه بتقنية حديثة، يُعد امتداداً لنقاش تعليمي مستمر، حول الفلسفة الأمثل للمناهج المدرسية: هل ينبغي أن تتمحور حول «المهارات»، أم حول «المعرفة»؟ وهل دور المدارس يكمن في تسليح الأطفال بمهارات المستقبل، أم في بناء قاعدة معرفية شاملة لديهم؟.
لقد أظهرت المناهج «الغنية بالمعرفة» تفوقاً ملحوظاً على نظيراتها «القائمة على المهارات»، ويعود ذلك أساساً إلى عجزنا الفادح عن استشراف المستقبل، فكيف يمكن لطالب بدأ تعليمه الإلزامي في أوهايو عام 1977، أن يتوقع أن ولايته ستشهد انحساراً صناعياً حاداً، وأن الحرب الباردة ستطوي صفحتها، وأن أجهزة الكمبيوتر الشخصية ستغزو بيوت الطبقة المتوسطة الأمريكية بحلول وقت تخرجه؟.
فما «المهارات» التي سيحتاجها جيل اليوم، في عصر هيمنة الذكاء الاصطناعي؟ يلقننا التاريخ درساً مهماً: أن المهارات التي ظننا يوماً أنها ستكفل لأصحابها مستقبلاً مهنياً مستقراً، لم تكن سوى ضمانات وهمية، فها هم المبرمجون، الذين تم تصويرهم قبل سنوات قليلة كأسياد المستقبل، يواجهون اليوم سوقاً متقلباً، وقد لا يستعيدون أبداً المكانة المرموقة والاستقرار اللذين نعموا بهما قبل خمس سنوات فقط. ولنتأمل مثالاً آخر من ألبرتا الكندية الغنية بالنفط، حيث وصلت معدلات البطالة بين علماء الجيولوجيا – تلك المهنة التي طالما اعتُبرت حصناً منيعاً ضد البطالة – إلى نصف خريجي التخصص في منتصف العقد الماضي.
ويُمثل الفصل بين المهارات والمعرفة ثنائية مصطنعة، لا تعكس واقع العملية التعليمية، فكما تشبّهها ديزي كريستودولو مديرة التعليم بمؤسسة «لا مزيد من التصحيح»، بأنها أشبه بالتساؤل عن «التوازن الصحيح بين المكونات والكعكة» – إذ لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
وتجسد مؤسسة «لا مزيد من التصحيح» ذاتها، التي توظف تقنيات الذكاء الاصطناعي لتقليص الوقت الذي يقضيه المعلمون – ذلك المورد الأغلى والأثمن في المنظومة التعليمية – في تصحيح أعمال الطلاب، نموذجاً واضحاً لهذا التكامل، فرغم أن أتمتة التصحيح والمهام الإدارية تحرر المعلمين من أعباء روتينية، إلا أن الاستثمار الأمثل لهذا الوقت المكتسب، يتطلب قاعدة معرفية عميقة، تمكنهم من فهم ديناميكيات العملية التعليمية.
ويستمد هذا المفهوم تأكيداً إضافياً من واقع المهن الحرفية المتخصصة، فالعديد من أصدقائي العاملين في هذا المجال، يحققون غالبية دخلهم من أعمال الصيانة والإصلاح، لكن مسيرتهم المهنية لم تبدأ بمواجهة صنبور يسرب المياه أو أسلاك معطلة، بل انطلقت من اكتساب طبقة أساسية من المعرفة النظرية، وهذا يفسر السبب الآخر لتفوق المناهج الغنية بالمعرفة، على نظيراتها المرتكزة على المهارات، فالمعرفة هي الأساس الذي يمكّنك من توظيف مهاراتك واستثمارها بفعالية.
وينسحب المنطق نفسه على تقنيات الذكاء الاصطناعي، إذ يعتمد التوظيف الفعّال لهذه التقنية، عبر مختلف المجالات، على امتلاك الرصيد المعرفي الضروري لفهم آليات استخدامها، والقدرة على تقييم مدى دقة ومناسبة المخرجات التي تقدمها، ومع التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي، تزداد قناعتي بأن معرفتنا الشخصية ستكتسب أهمية متصاعدة، حيث سنحتاج إلى القدرة على تبرير وتفسير أسباب اختياراتنا، وفهم المنطق الكامن وراء القرارات التي يتخذها الذكاء الاصطناعي.
ولا يعني ذلك أن الذكاء الاصطناعي يجب ألا يُحدث تحولات في محتوى مناهجنا الدراسية، إذ تقدم المناهج التعليمية الإنجليزية نموذجاً ملهماً للمقاربة الصحيحة، حيث تستهدف تزويد الطلاب بالقدرة على استيعاب الأسس الجوهرية لعمل البرمجة والحواسيب، فرغم أن إتقان مهارات البرمجة، قد لا يمثل ميزة حاسمة في سوق العمل المستقبلي، إلا أن فهم آليات عمل الشيفرة البرمجية، وكيفية «معرفة» الحواسيب للمعلومات، سيشكل مهارة حيوية لا غنى عنها.
إننا مقبلون على عالم ستكون فيه القدرة على فهم دوافع وأنماط سلوك الذكاء الاصطناعي، عاملاً حاسماً في تقييم كل شيء، بدءاً من أنظمة الحكم، وصولاً إلى جودة الخدمات التي نتلقاها، لذا، فإن المنهج الدراسي الذي يُعد النشء للتعامل مع الذكاء الاصطناعي، والعيش والعمل في عالم تشكله هذه التقنية، سيظل منهجاً يركز على نقل المعرفة المتعلقة بهذه التكنولوجيا (وبالحواسيب عموماً)، بدلاً من الانشغال بصقل مهارات تقنية محددة. ولن نستطيع تمكين أجيال المستقبل من تحقيق الاستفادة المثلى من آلات التفكير الجديدة، ما لم نعلمهم أولاً – وقبل كل شيء – كيف يفكرون بأنفسهم.