شهدت قاعة راديو سيتي ميوزيك هول في مانهاتن مساء الأحد الماضي احتفالية استثنائية، حيث انعقدت الدورة الثامنة والسبعون من جوائز توني المرموقة، التي كرست عودة المسرح الأميركي إلى عرشه بعد سنوات من التحديات التي فرضتها جائحة كوفيد-19. وقد تصدرت المسرحية الغنائية الكورية الجنوبية “Maybe Happy Ending” المشهد بحصولها على ست جوائز، مما يؤكد التنوع الثقافي الذي بات يميز مسارح برودواي المعاصرة.
تولت المغنية والممثلة البريطانية سينتيا إيريفو، الحائزة على جائزة توني والمرشحة لجائزة الأوسكار عن دورها في فيلم “ويكد”، إدارة فعاليات الحفل بأداء مبهر افتتحته بأغنية مذهلة رافقتها فيها جوقة من المطربين والراقصين. وأشارت إيريفو إلى أن هذا العام شهد أعلى عائدات في تاريخ برودواي، معلنة بفخر “لقد عادت برودواي رسميًا”.
وقد استطاعت مسرحية “Maybe Happy Ending”، التي تحكي قصة علاقة عاطفية غريبة تنشأ بين روبوتين في مدينة سيول المستقبلية، أن تأسر قلوب الجمهور والنقاد على حد سواء. هذا العمل الذي عُرض أصلًا باللغة الكورية قبل أن يُترجم للإنكليزية ويصل إلى برودواي، يعكس الانفتاح الجديد للمسرح الأميركي على التجارب الفنية العالمية. فاز العمل بجوائز أفضل موسيقى أصلية وأفضل سيناريو وأفضل تصميم ديكور، بالإضافة إلى جائزتي أفضل إخراج وأفضل ممثل رئيسي لدارين كريس.
النجم دارين كريس، المعروف بأدواره في “Glee” و”The Assassination of Gianni Versace”، حقق إنجازًا شخصيًا مهمًا بفوزه بأول جائزة توني في مسيرته عن دوره كروبوت يُدعى أوليفر. وأعرب كريس خلال تسلمه الجائزة عن فخره بكونه جزءًا من “هذا الموسم الرائع والمتنوع”، مؤكدًا أن العمل يحمل رسالة إنسانية عميقة حول التعاطف والمشاعر الإنسانية.
من جانبها، حققت نيكول شيرزينغر، القائدة السابقة لفرقة “The Pussycat Dolls”، انتصارًا مهمًا بفوزها بجائزة أفضل ممثلة رئيسية عن تجسيدها لشخصية نورما ديسموند، النجمة التي خفت بريقها، في مسرحية “Sunset Boulevard”. هذا العمل الذي فاز أيضًا بجائزة أفضل إعادة إنتاج، قُدم بأسلوب إخراجي مبتكر اعتمد على الشاشات العملاقة وكاميرات متحركة بدلًا من الديكورات التقليدية والأزياء المزخرفة.
وفي كلمة مؤثرة، وجهت شيرزينغر رسالة أمل لكل من يشعر بعدم الانتماء قائلة: “إذا كان هناك من يشعر بأنه لا ينتمي إلى مكان معين أو أنه لم يحقق نجاحًا بعد، فلا تيأس. واصلوا العطاء، فالعالم بحاجة اليوم إلى حبكم ونوركم أكثر من أي وقت مضى”.
وشهدت المنافسة على جائزة أفضل مسرحية جديدة مفاجأة حين ذهبت إلى مسرحية “Purpose” للكاتب براندن جايكوبس-جينكنس، التي فازت أيضًا بجائزة بوليتزر للمسرح عام 2025، متفوقة على العمل الكوميدي الساخر “Oh, Mary!” لكول إسكولا الذي كان يُعتبر المرشح الأوفر حظًا. غير أن إسكولا لم يخرج خالي الوفاض، فقد نال جائزة أفضل ممثل رئيسي في مسرحية عن أدائه المتألق في هذا العمل الذي يعيد تناول قصة اغتيال أبراهام لينكولن من منظور زوجته ماري تود لينكولن، المُصورة كامرأة مدمنة كحول تحلم بأن تصبح نجمة في الملاهي الليلية.
وقد تفوق إسكولا على منافسين أقوياء من بينهم النجم العالمي جورج كلوني، مما أثار إعجاب الحضور والنقاد. كما حصدت المسرحية أيضًا جائزة أفضل إخراج لسام بينكلتون، الذي وجه حديثه مباشرة إلى إسكولا قائلًا: “لقد علمتني أن أصنع ما أحبه لا ما أعتقد أن الناس يرغبون في رؤيته”.
في فئة المسرحيات، برزت الممثلة الأسترالية سارة سنوك التي فازت بجائزة أفضل ممثلة رئيسية في مسرحية عن أدائها الاستثنائي في “The Picture of Dorian Gray”، حيث تولت تجسيد جميع الأدوار الستة والعشرين في هذا الاقتباس المسرحي من رواية أوسكار وايلد الكلاسيكية. هذا الأداء الفردي المذهل يعكس مستوى الإبداع والابتكار الذي وصل إليه المسرح المعاصر.
وأضفت الاحتفالية بُعدًا خاصًا من خلال لم شمل فرقة العمل الأصلية لمسرحية “هاميلتون” بقيادة لين مانويل ميراندا، وذلك بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لهذا العمل. ظهر الفريق بأزياء سوداء أنيقة باستثناء جوناثان غروف الذي ارتدى سترة حمراء لامعة في دور الملك جورج، وقدموا مقطوعة موسيقية متسارعة ضمت أبرز أغاني المسرحية.
وتضمنت الأمسية فقرة مؤثرة لتكريم ذكرى الشخصيات المسرحية التي رحلت خلال العام الماضي، حيث أدت إيريفو وسارا باريليس أغنية “Tomorrow” من مسرحية “Annie” تكريمًا لذكرى الموسيقار تشارلز ستراوس الذي توفي الشهر الماضي. كما حصلت سيليا كينان بولغر على جائزة إيزابيل ستيفنسون للعمل الإنساني، بينما نال هارفي فايرستين جائزة الإنجاز مدى الحياة.
الأرقام التي أعلنتها رابطة برودواي تشير إلى نجاح باهر للموسم 2024-2025، حيث حققت المسارح إيرادات قياسية بلغت 1.89 مليار دولار من بيع 14.66 مليون تذكرة، متجاوزة بذلك الرقم القياسي السابق المسجل في موسم 2018-2019 قبل الجائحة والذي بلغ 1.83 مليار دولار. هذا الإنجاز يأتي رغم أن عدد الحضور لم يصل بعد إلى مستويات ما قبل الجائحة.
وقد ساعد في تحقيق هذا النجاح وجود نجوم عالميين على خشبات برودواي، حيث شارك في أعمال الموسم كوكبة من ألمع النجوم أمثال جورج كلوني في “Good Night, and Good Luck”، ودنزل واشنطن وجايك جيلينهال في “Othello”، وكيران كولكين وبوب أودينكيرك في “Glengarry Glen Ross”. هذه المسرحيات حققت أرقامًا استثنائية في شباك التذاكر، حيث تجاوزت بعضها 3 ملايين دولار أسبوعيًا.
كما شهد الموسم رقمًا قياسيًا آخر في نسبة إشغال المقاعد التي وصلت إلى 91.2%، وهي أعلى نسبة منذ سنوات. مسرحية “Good Night, and Good Luck” بطولة جورج كلوني حطمت الرقم القياسي لأعلى إيرادات أسبوعية لمسرحية غير موسيقية بحصولها على 4.24 مليون دولار في أسبوع واحد.
الموسم شمل 77 إنتاجًا مسرحيًا، منها 43 عملًا جديدًا، مما يعكس حيوية وتنوع المشهد المسرحي في نيويورك. وقد تميز هذا الموسم بكسر القواعد التقليدية للمسرح التجاري، حيث حققت أعمال غير تقليدية نجاحًا كبيرًا، مثل “Buena Vista Social Club” التي قُدمت بالكامل باللغة الإسبانية دون ترجمة إنكليزية، و”Dead Outlaw” التي كُتبت أصلًا كدراما صوتية قبل تحويلها إلى مسرحية.
وقد أشارت بعض الكلمات في الحفل بشكل غير مباشر إلى الأوضاع السياسية المتوترة في الولايات المتحدة، خاصة بعد عمليات الاعتقال الواسعة التي نفذتها إدارة الرئيس دونالد ترامب في المناطق ذات الكثافة السكانية اللاتينية، والتي أثارت احتجاجات واسعة النطاق. لكن المتحدثين تجنبوا ذكر اسم ترامب صراحة، مفضلين التركيز على قوة المسرح كمساحة للوحدة والشفاء الجماعي.
وأشار عدد من الفنانين والنقاد إلى أن نجاح جوائز توني هذا العام يؤكد أن المسرح ليس مجرد وسيلة ترفيه، بل منصة ثقافية حيوية تعكس تنوع المجتمع الأميركي وانفتاحه على تجارب فنية عالمية. ومع عودة الجماهير بقوة إلى المسارح، يبدو أن برودواي قد تجاوزت تحديات الجائحة ودخلت عصرًا جديدًا من الإبداع والازدهار.
