مؤخراً، كثرت المؤلفات والكتب النقدية التي تتناول موضوعات غريبة في أدائها وماهيتها، كالطعام والأدب، وكالمرض وتجلياته في الأدب، وكذلك البلاغة العربية وعلاقتها بإجاعة اللفظ وإشباع المعنى…، لقد وجدت الدراسات الإنسانية حديثاً طرقاً جديدة وهي تستكشف كُنه الأدب وجوهره، فالأدب بوصفه تفادياً منطقياً للواقعيات التي نعيشها وشروطها كان قد منح مَن يجيدون البحث في مخابئه القدرةَ على ابتكار مساحات جديدة لفهمه أولاً، وثانياً لمحاولة تجسيد الأدب وتحديد ماهيته ومفهومه.
أما كيف يقدح الشعر في خيال الشاعر؟ فهذا سؤال من صميم أسئلة نظرية النقد وليس من أسئلة نظرية الأدب، إذ لحظة الدّفق تلك لحظة كنت قد قرأت حولها كثيراً في ملفات الأدباء وفي سيرهم وشهاداتهم الإبداعية، فما الذي يحفّز الخيال الأدبي ويجعله يبتكر مادة الأدب؟ الروائي الياباني الشهير هاروكي موراكامي، يقول: «منحني الجري لربع قرن الكثير من الذكريات الجيدة»… فما علاقة الجري بالتَخيلة عند الأدباء؟ ما الذي يستحثّه الجري عند الإنسان وهو يغذ الخطى ويطوي الأمتار من أمامه؟ وأيضاً كيف تشتغل مجريات الأحداث الروائية وترتسم في ذهن روائي كهاروكي موراكامي وهو يجري؟ هذا تماماً ما تطرّق إليه موراكامي في مذكراته التي عنونها بـ «ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري»، فقد أسهب في تحليل العلاقة بين الجري وتدبّر العالم من حوله أثناء الركض، فمَن يَجهد ويركض يظلّ بصرُه وعضلاته وجلّ حواسه مشدودة ومجهدة باستثناء العقل ربما، يقول موراكامي: «لقد حفظت كل الحفر والنتوءات على طول الطريق في طوكيو»، هذه الجملة تشير إلى أن التأمل ليس المدعاة الوحيدة للتسلق نحو ذرى الأدب، فالأدب لاسيما السردي منه يتطلب في لحظته تلك صخباً وضوضاء، وأيضاً قلقاً والتباساً، وليس عزلة مريرة وتَوجُّد ذاتي خاص، لقد أكسب الجري الكاتب الياباني صاحب الكتاب سابق الذكر تبصراتٍ مختلفة ولحظاتٍ مشتركة مع آخرين لم يعرفهم قبلاً، ولم يصادفهم في الأماكن المغلقة والمستقرة أو الأماكن المؤثثة وفق ما يريدها ذوق أصحابها، فالجري قد يستدعي لحظات هاربة وأخرى يُجبرها على الجري معك وأنت تركض، وكأنك تقول لها ها قد عدتِ ولم تُنسي، الجري يمنح الوجوه التي تصادفك ملامح أخرى لم تعهدها من قبل، حيث هؤلاء كلهّم سيكون مادة سردية خام سيجري لاحقاً صوغها بالكتابة.
*أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية
