يتعامل الفيلم مع الصوت والصمت بوصفهما شخصيتين متعارضتين (هولو)

    في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، خلال تصوير فيلم راست Rust، انطلقت رصاصة حيّة بين مجموعة رصاصات مزيفة خلال تصوير أحد المشاهد في الفيلم، أودت بحياة مديرة التصوير البارعة هالينا هاتشينز، واستقرت في كتف مخرج الفيلم جويل سوزا الذي كان واقفاً إلى جانب هاتشينز.
    الحادثة ليست مجرد دراما مُختلقَة، وتداعياتها خلقت أسئلة جذرية عن ثمن الإهمال في صناعةٍ تُقدِّس السرعة على حساب الإنسان. اليوم تعود المخرجة راشيل ماسون، صديقة هاتشينز المقربة، بوثائقيٍ يروي لنا دراما ما خلف الكواليس، بعنوان Last Take: Rust and the Story of Halyna. وبقدر ما هو وثائقي استقصائي، فإنه استعادة للفنانة التي طحنتها العناوين الإخبارية وطبقات الفضيحة التي حوَّلت مأساتها إلى ترند عالمي.
    يبدأ الفيلم باستعادة اليوم الأخير في حياة هالينا هاتشينز في موقع التصوير، مُستخدِماً لقطاتٍ من كاميرات المراقبة وتسجيلات الشرطة ومقابلات تقليدية مع طاقم العمل. تدمج ماسون المشهد الأخير من حياة هاتشينز، ليس كما قدمته وسائل الإعلام بوصفه حادثاً معزولاً، بل على أنه نتيجة لسلسلة أخطاء متتالية، تبدأ عند استعجال الإنتاج، ثم إهمال بروتوكولات السلامة، وتوظيف أفراد غير مؤهلين، مثل مُدرِّبة الأسلحة هانا غوتيريز ريد، التي وُظِّفت في اللحظة الأخيرة بعد رفض خبراء آخرين العمل تحت ضغط الميزانية، وتنتهي بمقتل هاتشينز.
    يسرد الفيلم الوقائع والحيثيات كافة، ويحول الكاميرا من أداةٍ لصناعة الحياة إلى شاهدٍ على الموت. ومن جهة أخرى، يصبح الوثائقي مرآةً تعكس تناقضات الصناعة السينمائية نفسها ويربطها بثقافة سامة في صناعة الأفلام المستقلة، إذ تُختزل التكاليف حتى لو كان الثمن أرواحاً، والنظام الفني يحول الإنسان إلى قيمة قابلة للتفاوض في سلسلة الإنتاج.
    رغم الجهد الواضح لإبراز هاتشينز كفنانة، إلا أن بعض مشاهد الفيلم تقع في فخ التوثيق الجنائي الذي يقدم هاتشينز ضحية، فنرى مشاهد التحقيقات الطويلة، وتركيزاً على تفاصيل المحاكمات، ما يُقلِّل من مساحة السرد العاطفي. يتكمن العمل من إعادة إحياء إرث هالينا الفني، فتعرض ماسون مقاطع من أرشيفها الشخصي ويومياتها وتسجيلاتها أثناء العمل على أفلام سابقة، مثل فيلمها القصير Snowbound الذي يظهر براعتها في استخدام الإضاءة الطبيعيّة لخلق حكايات بصرية مؤثرة، وتقدم ماسون شخصية مديرة التصوير الحقيقية بعد أن طمست تحت ركام الفضائح.
    ربما يكون هذا الانقسام انعكاساً لصراع المخرجة الشخصي، فصداقتها مع هالينا جعلتها حريصة على إنصافها، لكن الضغوط التجارية (كما ذكرت ماسون في مقابلة صحافية) أجبرتها على الإجابة عن أسئلة الجمهور الملحّة، وأكدت أيضاً أن الإهمال الذي قتل صديقتها هو ذاته الذي يُهمل التفاصيل الصغيرة التي تصنع السينما العظيمة.
    تعتمد ماسون على تنويعاتٍ بصريةٍ لتفكيك اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت. لقطات الاستعراض (Rehearsal Footage) تُظهر للمشاهدين تسجيلات كاميرات الموقع وتحضيرات المشهد الأخير. يمسك الممثل أليك بالدوين السلاح بتوجيهٍ هالينا نفسها. وعند إشارة المخرج، يطلق النار. التكرار المُريب لهذه اللقطات يُذكِّرنا بأن السينما قد تُعيد إنتاج المأساة بدلاً من محاكاتها. تليها مباشرة عملية مونتاج مضاد، إذ تدمج المخرجة بين لقطات هالينا وهي تلهو مع طفلها على الشاطئ، وصور التحقيق القضائي الجاف والرتيب جداً.
    يتعامل الفيلم مع الصوت والصمت بوصفهما شخصيتين متعارضتين، الضجيج الإعلامي والصمت الدرامي، فتُعرَض التغريدات والقصص إخبارية السريعة مُرفقة بأصواتٍ مكتومة، تمثيلاً للفوضى الإعلامية التي حولت الحادث إلى ترند، والصمت الدرامي يخفي صوت الطلقة القاتلة تماماً، لتحل محلَّه شاشة سوداء. هنا، الصمت ليس فراغاً، بل مساحة يُسمح فيها للمشاهد بأن يتفاعل مع الفقد بنفسه من زاوية تصوير وأساليب سينمائية متعددة.

    الفيلم ينتقد الإهمال الذي حدث في فيلم راست ويتوسع لينتقد آلية صناعة الأفلام نفسها، ذلك من خلال مقابلات مع عمال الإضاءة وفنيي الكاميرا الذين غادروا الموقع قبل الحادث. تُظهر ماسون أن الثقافة الاستهلاكية في الأفلام غالباً ما تُكرس تكديس المهام ومحاولة اختصارها، كتوظيف مُدرِّبة الأسلحة هانا مسؤولةَ إكسسوارات أيضاً لتوفير المال.
    تحاول ماسون الدفاع عن إرث صديقتها وعن السينما التي اتهمت بارتكاب الجريمة، وتريد إدانة النظام التجاري الاستهلاكي الذي يحط من قيمة الإنسان مقابل قيمة السلعة. نجحت مانسون في تحرير صديقتها من سردية الضحية، عبر استخدام العدسة التي أدت إلى موتها، وحولت أحداث القصة إلى سردٍ عن الغياب، وليس عن الموت.