سعد عبدالراضي
في أرض تعانق الشمس كل صباح، وتزرع النور في تفاصيل الحياة، لا يعرف الإبداع موسماً واحداً، ولا يرضخ الفن لقوانين الطقس. هنا، في الإمارات، حيث تشتد حرارة الصيف وتلوذ الفصول بالظل، تظل الخشبة مشتعلة بالحكايات. فالمسرح لا يأخذ إجازة، بل يكتب فصولاً جديدة، ويعانق جمهوره بوهج لا يخفت.
المسرح الصيفي في الإمارات ليس بديلاً عن المهرجانات الكبرى، بل هو امتدادٌ حيٌّ لمشهد فني لا يغيب، وتعبيرٌ ثقافي مستمر عن أن الخشبة لا ترتبط بموسم، بل بالنبض. وبين صالات مكيفة، ومراكز ثقافية في مختلف إمارات الدولة، تعلو أصوات الممثلين، وتُضاء العيون، ويتكوَّن جمهور جديد في كل عرض.
في صيفٍ يبدو ساكناً من الخارج، ينبض المسرح بالحياة، حيث يؤكد الكاتب والمخرج المسرحي صالح كرامة العامري، أن هذا الموسم يمثل فرصة ثمينة لصقل المواهب الشابة، خاصة طلاب المدارس الذين يجدون في أوقات الفراغ منصة لاكتشاف ذواتهم.
ويقول العامري: «استغلال وقت الفراغ في الصيف لإقامة عروض مسرحية يجعل الحضور كثيفاً، واكتشفت بالفعل مواهب عديدة في هذه الفترة. المسرح لا يختلف صيفاً أو شتاءً، فهو فن لا يعترف بالفصول».
ويضيف أن المراكز الصيفية التي عمل فيها لسنوات، أثبتت أنها حاضنات حقيقية للفن، إذا ما توافرت لها الرؤية والدعم، داعياً المؤسسات الثقافية إلى مواصلة احتضان العروض الصيفية بشكل جاد ومستدام.
جمهور حاضر
رغم الاعتقاد السائد بأن الأنشطة الثقافية تخف صيفاً، فإن التجربة الإماراتية تفنّد هذا التصور. فالجمهور، بعفويته وتنوعه، يحضر، يتفاعل، ويصنع الفرق. من العائلات التي تأتي برفقة أطفالها، إلى الشباب والسياح، لا يخلو مسرح من جمهور متعطّش للفن الحي.
ويشهد المسرح الصيفي تفاعلاً لا يقتصر على المشاهدة، بل يمتد إلى الحوارات المفتوحة بعد العروض، والنقاشات الفكرية التي تعقد على هامشها، ما يعكس نضج المتلقّي، وارتباطه الحقيقي بما يُعرض على الخشبة.
ولا يخلو أي مشروع ثقافي من التحديات، وهو ما يرصده الفنان المسرحي القدير عبدالله الجفالي، الذي يرى أن بعض العقبات تظهر صيفاً، منها أن المسرحيين أنفسهم يدخلون في فترة استراحة بعد انتهاء المهرجانات الكبرى، إضافة إلى ارتباطات السفر، مما يقلل من فرق العمل الجاهزة.
لكنه يضيف: «الحرارة لا تؤثر على الإقبال لأن العروض تُقام في صالات مغلقة، وهناك دعم لوجستي من وزارة الثقافة، والمسارح مجهّزة على مستوى الدولة، ولدينا تجارب ناجحة خارج البلاد لاقت الاستحسان». ويختم قائلاً: «المسرح لا يموت، ونحن كمسرحيين نؤمن دائماً بأن القادم أجمل، مهما كانت التحديات».
صيف التجريب
ما يميز المسرح الصيفي في الإمارات هو كونه موسماً للتجريب والتكوين، لا مجرد تكرار لمواسم سابقة. ففي هذا الوقت، يُتاح للمخرجين الشباب تقديم رؤاهم الخاصة، وتُجرَّب نصوص جديدة، ويُفسح المجال للمواهب الجديدة كي تصعد الخشبة للمرة الأولى. ويُدرج ضمن الموسم عدد كبير من الورش التدريبية، والقراءات المسرحية، والجلسات النقدية، مما يجعله بيئة حاضنة للفكر والتعلُّم، لا مجرد فضاء للعرض. فيتلاقى الجيل المخضرم بالحالمين الجدد، ضمن رؤية واحدة: «أن يبقى المسرح حياً طوال العام».
ومن أهم عناصر نجاح المسرح الصيفي هو الدعم المؤسسي الذي يحظى به. فدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، وهيئة دبي للثقافة والفنون، ودائرة الثقافة في الشارقة، تعمل بشكل مستمر على ضمان جودة البنية التحتية المسرحية، وتقديم الدعم اللوجستي والإنتاجي، وتنظيم مهرجانات وعروض صيفية موجهة لمختلف الشرائح.
وتسهم التغطيات الإعلامية النوعية في تسليط الضوء على هذه المبادرات، وتحفيز الجمهور على الحضور، وبناء عادة مسرحية راسخة في الوعي المجتمعي، تتجاوز فكرة «الفعالية المؤقتة»، لتصبح ركيزة ثقافية دائمة.
المسرح مرآة
المسرح، كما يقول المبدعون، ليس مجرد خشبة، بل مرآة تعكس وجدان المجتمع، ومتنفَّس للحوار والبوح والدهشة. وفي الإمارات، نجح المسرح الصيفي في أن يكون أكثر من حدث موسمي. لقد بات مشروعاً ثقافياً متواصلاً، يقوده كتّاب ومخرجون وممثلون، ويحرسه جمهور لا يتنازل عن متعته الروحية. وبين مسرحية وأخرى، تُكتب فصول جديدة في علاقة الجمهور بالمسرح.
من خشبة إلى أخرى، ومن عرضٍ إلى آخر، يثبت المسرح الإماراتي صلابته في وجه الموسمية، ويصوغ لنفسه زمناً خاصاً، لا يُقاس بالتقويم، بل بالأثر. وفي هذا السياق، يؤكد. الممثل سعيد الزعابي أن لا وجود فعلياً لمصطلح المسرح الصيفي، فالمسرح هو المسرح في كل الفصول، لكن يمكن الحديث عن مسرح مرتبط بالنشاط الصيفي، يستهدف الطلاب ضمن المراكز الثقافية والمجتمعية، مشيراً إلى أن هذا النوع من المسرح يكتسب أهمية خاصة، كونه يملأ أوقات فراغ الطلبة في العطلة، ويشكّل أساساً لتكوين شخصياتهم في مراحل عمرية مبكرة.
وأوضح الزعابي أن المسرح ليس مجرد تجربة عابرة، بل تجربة تبقى في الوجدان، لافتاً إلى أن الطالب، سواء واصل العمل المسرحي أم لا، سيكتسب من خلاله ذائقة فنية، ويطور مهارات الانضباط، والتواصل، والقيادة، وإدارة الوقت، والابتكار.
ويستطرد: «عندما تعمل ضمن فريق على مسرحية تتطلب تنسيقاً بين الممثلين والمخرجين والمصممين، فإنك لا تتعلم فقط فن الأداء، بل كيف تتحمل المسؤولية وتعمل بروح الفريق». وأشار إلى أن الوقوف على خشبة المسرح يعلّم الطالب كيف يخاطب الجمهور، وينمّي ثقته بنفسه، ويحوّل النصوص الجامدة إلى حياة نابضة بالصوت والصورة.
ويقول الزعابي: «المسرح مدرسة متكاملة من الانضباط والقيادة والإبداع… وحتى إن كانت تجربة الطالب مؤقتة، فإنها تظل محفورة في ذاته مدى الحياة». ويضيف: «البروفة تعلم احترام الوقت، والصمت يعلم التفاعل العاطفي، والنص يعلم التعبير… وكل ذلك يولّد شخصية قيادية قادرة على العمل الجماعي».
فرصة مثالية
من جهته، أشار الممثل علي أحمد الجابري إلى أن «الصيف هو موسم الفراغ الأكبر لدى الشباب، مما يجعل العروض المسرحية فرصة مثالية تجمع بين الترفيه والتثقيف»، معتبراً أن هذه العروض «توفر بدائل إيجابية عن الانشغال بالعالم الرقمي، وتفتح مساحة لبناء الوعي والانتماء الأسري والمجتمعي».
وأوضح الجابري أن المسرح في الإجازات لا يقتصر على تقديم عرض فني، بل هو استثمار مباشر في تنمية الإنسان وبناء الوطن، وقال: «المسرحيات الصيفية تمنح الشباب أدوات التفكير، وتفعّل حضور الثقافة في المجتمع، وتمنحنا جيلاً قادراً على التعبير والتفاعل».
وأكد الجابري: «المسرح في الصيف ليس مجرد ترفيه، بل منصة لبناء الشخصية وتحقيق التوازن بين الثقافة والهوية». ويختتم بقوله: «كل عرض مسرحي في عطلة الصيف هو خطوة نحو مجتمع أكثر وعياً وثقافة».