ليست كوريا الجنوبية هي التي صنعت مسلسل “لعبة الحبار”، بل يمكن القول إن كوريا كلها -باقتصادها وثقافتها وهويتها- هي من وُلدت داخل اللعبة.

فكما اللاعبة الصغيرة رقم 222 التي خرجت بين الجدران العالية، داخل نظام قواعد قاسٍ لا يرحم، وقوى باطشة يحركها المال والاقتصاد الساكن وراء اللعبة، أُجبرت سيؤول على خوض تحديات لم تخترها، حتى وجدت نفسها فجأة في قلب المنافسة… ثم في قلب الانتصار.

تشكّل الاقتصاد الكوري بنفس الطريقة: من رحم الاستعمار، الحرب، الفقر، وأزمات ما بعد الانهيار المالي في التسعينيات، ليصبح الآن واحداً من أقوى الاقتصادات الإبداعية على مستوى العالم.

أما “لعبة الحبار” أو (Squid Game)، وهو المسلسل الأعلى مشاهدة في تاريخ “نتفليكس” بواقع أكثر من 350 مليون مشاهدة رسمية، و2 مليار ساعة مشاهدة وفق آخر إحصائيات المنصة، فلم يكن فقط تحفة درامية مشوقة فحسب، بل كان محركاً جديد للاقتصاد الكوري.

ومع نجاح المسلسل أطلقت صفارة البدء لعصر جديد، عصر أجبر حتى الولايات المتحدة -رائدة صناعة الترفيه التلفزيوني عالمياً- على إنتاج نسخة أميركية مستوحاة منه، لتصبح لأول مرة الدراما الأميركية هي التابعة، لا القائدة.

كوريا تغير قواعد اللعبة الفنية والاقتصادية

بدأت كوريا الجنوبية في أوائل الألفية الثالثة تفكر في الفن بشكل جديد: ليس كترف ثقافي، بل كمحرك للنمو الاقتصادي.

وهكذا وُلدت استراتيجية “الهاليو” أو “الموجة الكورية”، التي تبنتها الدولة بشكل رسمي، وأنشأت لها أذرعاً تنظيمية قوية أبرزها:

هيئة المحتوى الإبداعي الكوري أو ” KOCCA”، التي تأسست عام 2009 بميزانيات ضخمة لتمويل الدراما، الرسوم المتحركة، الموسيقى، الألعاب الإلكترونية. و مؤسسة التبادل الثقافي الدولي “KOFICE”، التي عملت على تسويق الثقافة الكورية في الخارج، وتنظيم مهرجانات وعروض ثقافية في أكثر من 90 دولة.

إضافة إلى استثمار حكومي مباشر في التدريب الفني، وإنشاء مدارس إنتاج وسيناريو، ودورات حكومية لتعليم اللغة الكورية في الخارج.

فحسب تصريحات مسؤوليين كوريين، لم تكن سيؤول تمول الفن من باب “الدعم”، بل كانت تبني اقتصاداً إبداعياً متكاملاً يهدف إلى توليد الدخل، النفوذ، والهوية العالمية.

اقتصاد الثقافة الكورية بالأرقام

اليوم، يبلغ حجم سوق المحتوى الثقافي الكوري ما يزيد عن 60 مليار دولار، وتُقدر صادرات الثقافة الكورية بأكثر من 12.4 مليار دولار سنوياً، بحسب تقرير وزارة الثقافة لعام 2024.

وتُسهم هذه الصناعات الإبداعية بما يعادل 2.1% من الناتج المحلي الإجمالي الكوري— أي أكثر مما تُسهم به الزراعة.

وبحسب تقرير صادر عن مؤسسة “هيونداي ريسيرش إنستيتيوت” (Hyundai Research Institut)، فإن كل زيادة بنسبة 1% في الطلب على المسلسلات الكورية تؤدي إلى نمو بنسبة 0.2% في صادرات المنتجات الاستهلاكية الكورية، وزيادة بنسبة 0.6% في السياحة الوافدة. مع ارتفاع في أسهم شركات الإنتاج والترفيه بنسبة فورية قد تصل من 10% إلى 30% بعد عرض كل عمل ناجح.

ومع نجاح “لعبة الحبار”، سجلت شركة “Bucket Studio” المرتبطة بجي هون، بطل العمل المعروب باسم “اللاعب رقم 456” ارتفاعاً في أسهمها بأكثر من 84% خلال أسبوعين من عرض الجزء الأول للمسلسل فقط.

لعبة الحبار.. من دراما إلى سلعة قومية

عندما عُرض الجزء الأول من “لعبة الحبار” في سبتمبر 2021، حصد المسلسل 142 مليون مشاهدة خلال أول 28 يوماً، ليصبح الأكثر مشاهدة في تاريخ “نتفليكس” آنذاك.

لكن الأهم من الأرقام كان التأثير، حيث ارتفعت معدلات الاشتراك في “نتفليكس” آسيا بنسبة تجاوزت 23%، بسبب المسلسل. كما قفزت مبيعات ملابس اللاعبين والأدوات والأكسسوارات المرتبطة بهم بنسبة 700% عالمياً.

ليس هذا وحسب، حيث سجلت منصات تعليم اللغة الكورية قفزة في عدد المتعلمين الجدد بنسبة 76%، ورغم أن عدد سكان كوريا الجنوبية يناهز 52 مليون نسمة فقط، إلا أن العديد من الأشخاص حول العالم أبدوا اهتماماً خلال السنوات الأخيرة بتعلم اللغة الكورية، فقط حتى يفهموا الدراما والأغاني الكورية التي تابعوها وتعلقوا بها.

حتى مون جاي إن، رئيس كوريا الجنوبية خلال فترة عرض الجزء الأول من المسلسل، أشار في تصريح رسمي إلى أن “قوة كوريا الناعمة أصبحت لا تُقاوم”.. بفضل مسلسلات مثل “لعبة الحبار” وأغاني الكيه بوب الكورية.

نتفليكس.. أرباح ومشاهدات خرافية من “لعبة الحبار”

منذ انطلاقه عام 2021، واصل مسلسل “لعبة الحبار” (Squid Game) تحطيم الأرقام القياسية، محققاً أكثر من 660 مليون مشاهدة عالمية على مدار مواسمه الثلاثة، وفق بيانات “نتفليكس” حتى 30 يونيو 2025. واحتل المسلسل المرتبة الأولى في جميع الدول الـ93 التي تنشر فيها المنصة قوائمها لأكثر 10 أعمال مشاهدة، ليُرسّخ مكانته كواحد من أنجح الإنتاجات التلفزيونية في تاريخ المنصة، كما أضافت الشركة 4.38 مليون مشترك جديد في الربع السنوي الذي شهد عرض الموسم الأول للمسلسل.

اقرأ المزيد: نجاح مسلسل “لعبة الحبار” يقفز بعدد مشتركي “نتفلكس”

وبمقارنة الأجزاء الثلاثة، سجّل الموسم الأول 388.1 مليون مشاهدة، منها 142 مليون في أول 28 يوماً فقط منذ عرضه عام 2021. أما الموسم الثاني، الذي طُرح في 2024، فحقق انطلاقة نارية مع 68 مليون مشاهدة خلال أول 4 أيام، بإجمالي 212.5 مليون حتى الآن، ليكون أسرع المواسم تحقيقاً للمشاهدات. وفي عام 2025، واصل الموسم الثالث الزخم ذاته، جامعاً 60.1 مليون مشاهدة خلال أول 3 أيام فقط من عرضه.

وبحسب وثائق داخلية نشرتها بلومبرغ ووسائل إعلام أميركية، حقق الموسم الأول عائداً مباشراً لـ”نتفليكس” يتجاوز 900 مليون دولار، رغم أن تكاليف إنتاجه لم تتجاوز 21.4 مليون دولار، أي أن العائد تخطى التكلفة بأكثر من 40 ضعفاً.

وارتفعت القيمة السوقية لشركة “نتفليكس” بمليارات الدولارات خلال الأسابيع التالية للعرض الأول. وقدرت المنصة أن المسلسل ساهم بشكل مباشر في تعزيز أرباح الربع الأخير من 2021 بنسبة 13% عن المتوقع.

وما أكد مكانة “لعبة الحبار” كرمز عالمي، هو قرار نتفليكس بإنتاج نسخة أميركية من البرنامج الواقعي المستوحى من السلسلة تحت اسم: Squid Game: The Challenge مما يعكس اعترافاً ضمنياً بأن المحتوى الكوري أصبح النموذج لا النسخة.

“Winter Sonata”.. بداية الخروج للعالم

مع ذلك، لم يكن “لعبة الحبار” البداية. فالدراما الكورية بدأت تصدر تأثيرها منذ أوائل الألفية، ومن أبرز النماذج، ويعيد بعض المؤرخين بداية النفوذ الاقتصادي الهائل للدراما الكورية إلى مسلسل “وينتر سوناتا” (Winter Sonata)، الذي عُرض عام 2002، وتسبب في طفرة سياحية ضخمة لجزيرة نامي، وارتفعت نسبة السياح اليابانيين إلى كوريا بنسبة 30% بعد عرضه، وبفضله زادت شعبية منتجات عناية البشرة الكورية للرجال والنساء على مستوى العالم وعمليات التجميل الكورية، حتى أصبحت تشكل اليوم عموداً اقتصادياً أساسياً في حد ذاتها.

وتكرر الأمر ذاته في 2016 مع مسلسل “أحفاد الشمس” (Descendants of the Sun)، الذي تسببت شعبيته العالمية الهائلة في فتح الحكومة لمواقع التصوير للزوار، وحققت صادرات المنتجات المرتبطة بهذه الدراما أكثر من 260 مليون دولار، إلى جانب حدوث طفرة في مبيعات معظم المقتنيات التي ظهرت في المسلسل بما فيها أقراط البطلة وملابسها، والسيارة ذاتية القيادة التي ظهرت في أحد الحلقات.

واستمر النجاح الكبير نفسه مع مسلسل  “هبوط اضطراري للحب” (Crash Landing on You)، الذي أُذيع أول مرة عام 2019 وساعد في تعزيز صورة كوريا في الصين وتايلندا وفيتنام، وارتفعت مبيعات منتجات التجميل الكورية بنسبة 21% بعد عرض المسلسل.

موسيقى K-Pop.. صناعة قائمة بذاتها

ومن النجاح الدرامي إلى الأعمال الغنائية، حيث تحقق فرقة “BTS” وحدها ما يزيد عن 5 مليارات دولار سنوياً من العوائد المباشرة وغير المباشرة. وتُقدر مساهمتها في الاقتصاد الكوري بما يعادل 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل أرباح شركة “سامسونغ” في ربع سنوي واحد تقريباً.

كما تضم البلاد مئات الفرق الأخرى الناجحة على مستوى العالم، وأبرزها BLACKPINK وEXO وTWICE وStray Kids وSeventeen..

وتُدار هذه الفرق من قبل شركات ترفيه عملاقة مثل “إس إم إنترتينمنت” ((SM Entertainment، و”واي جي إنترتينمنت” (YG Entertainment)، و”هايب” (HYBE)، التي تُعد اليوم من أكبر التكتلات الثقافية في آسيا، وتُتداول أسهمها في البورصة الكورية، وتُدر مليارات الوونات الكورية سنوياً.

وقدرت وزارة الثقافة الكورية أن صادرات منتجات K-Pop تجاوزت 10 مليارات دولار في 2024، تتوزع بين الموسيقى، والحفلات، والبضائع الرسمية، وحقوق البث، وتراخيص الإعلانات. وأدرجت كوريا “BTS” ضمن أدوات قوتها الناعمة في تقرير السياسة الخارجية لعام 2021.

الفن الكوري يغزو الوطن العربي

لم يقتصر نجاح الفن الكوري على آسيا وأميركا وأوروبا، بل وصل صداه بقوة إلى المنطقة العربية، حيث باتت الدراما الكورية تحصد جماهيرية واسعة في الخليج والمغرب العربي ومصر وبلاد الشام.

فمنصة “ويڤر” (WeTV) ومنصات عربية مثل “شاهد” و”Viu Arabia” باتت تتسابق على توفير المسلسلات الكورية بترجمات عربية، بل وتقوم بعض القنوات بتوفير دبلجات باللهجة السورية أو المصرية.

وبحسب تقرير ” Google Trends” السنوي لعام 2024، فإن الدول العربية مثل السعودية ومصر والمغرب والجزائر تصدرت منطقة الشرق الأوسط وأوروبا في معدلات البحث عن مسلسلات مثل: Lovers of the Red Sky، وExtraordinary Attorney Woo، وThe Glory وSquid Game.

واللافت أن الجمهور العربي لم يعد يشاهد فقط، بل يتفاعل، وينتج محتوى مراجعات وتحليلات وميمز، ويرتدي أزياء مستوحاة من الأعمال الكورية.

وأدى ذلك إلى انتشار دورات تعليم اللغة الكورية في الجامعات والمراكز الثقافية، واستيراد مستحضرات التجميل الكورية بكثافة، إلى جانب تزايد الرحلات السياحية إلى كوريا من دول الخليج، وإقامة حفلات وفعاليات خاصة لهذه الأعمال الدرامية والفرق الغنائية.

النهاية ليست في الحلقة الأخيرة

ختاماً، ورغم أن الحكاية الدرامية انتهت عند الحلقة الأخيرة من الجزء الثالث التي حملت عنواناً بليغاً: “البشر هم..”، فإن القصة الحقيقية لم تنتهِ، بل بدأت من هناك، حيث لم يكن “لعبة الحبار” مجرد عمل ناجح، بل نقطة تحول عالمية أكدت أن الصناعات الثقافية يمكن أن تُنافس نظيرتها الثقيلة… وربما تتفوق عليها.

فالبشر هم الذين حولوا الألم إلى قصة، والخسارة إلى عمل فني، والحكاية إلى اقتصاد.