لوسيان شهوان

عمق الصراع القائم في لبنان يعود إلى تفلّت العنف بأدواته اللبنانية وغير اللبنانية. فقد كان اندلاع حرب لبنان نتيجة مباشرة لعجز دوائر القرار العربي والدولي عن إيجاد حلّ للقضية الفلسطينية، التي ارتدت أقنعة الثورة المسلّحة وتوغلت على الأرض اللبنانية، فاصطدمت آنذاك بالشرعية وممثليها ومؤيديها، وكانت الحرب.

لم يكن رافضو التوغّل الفلسطيني آنذاك وأعني هنا الكتائب اللبنانية والأحرار والتنظيمات الأخرى تهوى العنف أو ترى في السلاح غايةً لوجودها. جلّ ما أرادته هو العيش في كنف دولة تحمي الجميع وتصون أمن وحريات اللبنانيين على أرضهم. ولعلّ رفضها لمنطق السلاح غير الشرعي انطلق من قناعة راسخة بضرورة العيش في استقرار بعيداً عن التفلت الأمني والعسكري. فمطلب إسقاط عسكرة القضية الفلسطينية لم يكن نقيضاً لحق عودة الفلسطينيين إلى أرضهم، بل رفضاً مشروعاً لعسكرة مطالبهم انطلاقاً من الداخل اللبناني.

حتى عندما تنازلت الدولة عن سيادتها عبر توقيع اتفاق القاهرة بعد تهديدات ناصرية – فلسطينية بتوسّع رقعة المواجهات بين الشرعية واللاشرعية، لم يُشبع هذا التنازل نهم اللاشرعية. فلم تلتزم بما جاء في ذلك الاتفاق المذلّ بحق الدولة اللبنانية، وتخطته إلى طموحات أوسع استغلها من أراد قلب النظام السياسي في لبنان، فتفجّر الوضع. لم تفلح مهادنة اللاشرعية آنذاك، فسقط لبنان في جولات قتال امتدّت خمسة عشر عاماً، تبدلت خلالها أولويات المدافعين عن فكرة الدولة. فألقوا فيما بعد السلاح الذي لم يكن يوماً غايتهم، ظنًا منهم أن مطلبهم اللبناني، الذي كان في أساس نشوب الحرب، قد تحقق مع اتفاق الطائف بإنهاء كل سلاح غير شرعي، لبنانياً كان أم غير لبناني.

لكن حافظ الأسد كسر هذا “المطلب اللبناني”، وأبقى على سلاح تنظيم غير شرعي هو حزب الله، بحجة “مقاومة العدو”، ليخدم أوراقه التفاوضية مع إسرائيل حتى رحيله عام 2000. واستكملت الأداة السورية – اللبنانية خرق الدستور وتعاظم دور السلاح غير الشرعي، الذي انقضّ من جديد على الدولة وسيادتها في مشاهد لا يزال اللبنانيون يذكرونها حتى اليوم ولن ينسوها. سلاح حزب الله هو معضلة دستورية – سيادية قبل كل شيء، ولهذا لا يصحّ اختزاله بجدل نظريات ووجهات نظر.

منذ نهاية الحرب اللبنانية عام 1990، بدأت معضلات هذا السلاح تتراكم. فمن عارض بقاءه منذ اللحظة الأولى دفع ثمن حرّيته أحد عشر عاماً ونيفاً في الاعتقال السياسي، وأعني هنا سمير جعجع. ومن ناهضه في أيامه الأخيرة سقط شهيداً في وسط بيروت، وأعني هنا رفيق الحريري. وقافلة من الشهداء والضحايا والجرحى في الجسد والاقتصاد والكرامة سقطوا على درب مناهضة هذا السلاح، وكان مطلبهم اللبناني أولاً بإنهاء هذه المعضلة، المدخل الوحيد لعبورهم نحو الدولة القوية.

اليوم تعتبر “الممانعة”، بعد سقوط كل سردياتها في الردع والمقاومة، أن مطلب نزع ما تبقى من سلاح حزب الله هو تلبية لإرادة الخارج. لكن الممانعة تتناسى الكلفة الباهظة التي تركها هذا السلاح على بيئة “الممانعة” أولاً، وعلى كل مكونات المجتمع اللبناني. وبالمناسبة، نسأل كل من يقف خلف هذه النظريات: أين كان هذا الخارج حين سُمح لهذا السلاح أن يبقى بعد نهاية الحرب اللبنانية، وبعدما لُزم لبنان لنظام الأسد فتمدّد السلاح تدريجياً من الجنوب إلى البقاع وصولاً إلى ضاحية بيروت الجنوبية؟ هل كان الخارج يطالب بخروج سوريا من لبنان وبنزعه؟ أما كان المطلب اللبناني الرافض للهيمنة السورية، الذي سبق القرار الدولي 1559 الذي عاد وعبّر بوضوح عن ضرورة خروج الجيش السوري ونزع السلاح غير الشرعي، هو الأساس؟

وهل نسي هؤلاء نضال البطريرك الراحل نصرالله صفير الذي بذل كل ما يلزم من أجل تثبيت القضية اللبنانية على جدول أعمال دول القرار؟ فهو الذي أسهم بشكل رئيسي في تحريك هذا المسار، مع مجموعات وشخصيات لبنانية عملت بصمت في الداخل والخارج لصون المطلب اللبناني، كما رافق ذلك حراك نضالي لطلاب القوات اللبنانية وغيرهم من معارضي نظام الأسد الذين وقفوا بصلابة في وجه أجهزة الزمن السوري ودفعوا أثمانًا باهظةً لتثبيت مطالبهم الداعية إلى خروج الجيش السوري من لبنان. وحتى بعد ثورة الأرز وموجة الاغتيالات السياسية ومحاولات الاغتيال التي تعرّض لها قادة 14 آذار الذين واجهوا سلميًا بطش دويلة حزب الله، لم تتوقف المطالب اللبنانية بنزع سلاح حزب الله.

صحيح أن هذه المطالب تقاطعت مع الخارج في محطات عديدة، وتتقاطع اليوم على مصلحة لبنان بما يعزز قيام الدولة ومؤسساتها فيه. فأصدقاء لبنان ينتظرون الرئيسين جوزيف عون ونواف سلام للمضي قدماً في تعزيز دور الشرعية على حساب الدويلة.

المطالب اللبنانية كانت دائماً موجودة، وتحديداً مطلب نزع السلاح غير الشرعي والابتعاد عن مهادنته. فهذا من صلب نضال اللبنانيين الأحرار الذي يعود إلى ما قبل اندلاع الحرب اللبنانية، وقد كلّفهم الكثير لتثبيت حصرية السلاح في وثيقة الوفاق اللبناني مع نهاية الحرب. ولم يتخلّوا حتى اليوم عن التزامهم بضرورة تحقيق هذه الحصرية التي ستتحقق في النهاية. فالمطالب اللبنانية، منذ إعلان دولة لبنان الكبير، تنتصر في النهاية!