رسم يظهر سيدة تجلس إلى مكتب ورجل يقف خلفها ويضع يده على كتفها

    صدر الصورة، Getty Images

    قبل 3 ساعة

    في العاصمة تونس، وبين جدران مركز حقوقي، تروى يومياً قصص عن حالات تحرّش منها ما يقال بصوت مكسور، ومنها ما يسرد على استحياء.

    من بين هذه القصص، كانت حكاية “ريم” – اسم مستعار – التي لجأت إلى المركز المتخصص بـ”الإنصات لضحايا العنف”، الذي تديره الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، بحثاً عن مكان آمن بعدما تعرضت “لمحاولة اغتصاب من مديرها في مؤسسة حقوقية دولية” كانت تعمل بها، كما تقول لبي بي سي عربي.

    دخلت ريم مجال العمل الحقوقي بحماس شابة تؤمن بالتغيير. لكنها وجدت نفسها في مواجهة رجل يكبرها بعقدين في مكان عملها؛ استغل هشاشتها النفسية والاقتصادية، على حد وصفها، وبدأ في التلاعب” بها تدريجياً؛ أوهمها بعدم كفاءتها، ثم راح يتقرّب منها بحجج “التوجيه المهني”، حتى تحوّل القرب إلى “محاولة اعتداء صريحة”.

    معروف أن التحرش ظاهرة منتشرة في كثير من المجتمعات العربيّة، ولعبت منظمات نسوية وحقوقية دوراً بارزاً في الدفع نحو تشريعات تحمي النساء من العنف بأشكاله، مثل المساهمة في صياغة قوانين أو سياسات لمناهضة التحرش.

    ويشيع اعتقاد بأن هذه المؤسسات، لكونها معنية بالدفاع عن حقوق النساء أو قائمة على مبادئ نسوية، يفترض أن تكون بطبيعتها أكثر أماناً للنساء.

    لكن يبدو أن هذه المساحات، رغم خطابها الحمائي، ليست بمنأى عن التعديات والانتهاكات، كما تشير شهادات جمعتها بي بي سي عربي، بل إن بعض النساء تحدثن عن صدمة مضاعفة، كون الانتهاك وقع داخل مؤسسة من المفترض أن تكون “ملاذاً آمناً”.

    ترى أمل خليف، الباحثة والناشطة النسوية التونسية، أن حوادث التحرش والانتهاك التي وقعت في بعض هذه المنظمات، ورغم تسببها بصدمة، دفعت نحو مراجعات حقيقية، ودفعت نحو إعداد سياسات داخلية وتشكيل لجان وتعميم تجارب الحماية.

    وفي بعض الأحيان، تعرضت منظمات لـ”فقدان الشرعيّة” بسبب مثل هذه حوادث، كما قالت ناشطة رفضت الكشف عن هويّتها.

    رسم لامرأة تجلس على كرسي محنية الرأس وخلفها رجل يلف يده حولها

    صدر الصورة، Getty Images

    “التضامن يمكنه قلب الموازين”

    تحدثتُ مع موظفات وناشطات ومحاميات من أربع دول عربية، جمعتهن تجربة الانتهاك داخل مؤسسات تُفترض فيها الحماية. كانت مساراتهن متباينة، تراوحت بين البوح والشكوى الداخلية أو الصمت. ولم تذكر العديد من الأسماء في هذا التحقيق، لضمان سلامتهن.

    وفي هذا التحقيق، يُستخدم مصطلحا “الناجية و”الضحية” بالتناوب، احتراما للطريقة التي تختار فيها كل امرأة أن تصف بها تجربتها الخاصة. فبعضهن يفضلن مصطلح “الناجية” للتأكيد على القوة والتعافي، بينما ترى أخريات أن وصف “الضحية” يُنصف معاناتهن ويعترف بحجم الضرر.

    ريم قررت ألا تطرق باب القضاء فوراً، واختارت أن تبوح بقصتها لفاطمة أسماء المعتمري، المدافعة النسوية وممثلة الجمعية.

    تحدثتُ إلى فاطمة، وأوضحت لي أن “القانون التونسي لا يسقط محاولة الاغتصاب بالتقادم”، لذلك كانت نصيحتها لريم أن تبلّغ عن الرجل الذي تتهمه “حين تكون حاضرة ومستعدة”. قالت لها: “نحن هنا. وسأكون أول المدافعات عنك”.

    لم تكن حالة ريم فريدة. تحكي المعتمري أن المركز تلقى شكاوى أخرى بالتحرش من قبل نفس الشخص تجاه موظفات بالمؤسسة الحقوقية، اخترن عدم التقدم بشكوى رسمية بسبب نفوذه، كما تتحدث عن حالات مماثلة لناشطات وموظفات تعرضن لانتهاكات من شخصيات نافذة، وقررن بداية أن يلجأن للحكي غير الرسمي بدلاً من رفع شكاوى.

    وفي غياب توفّر أرقام دقيقة، تقول المعتمري إن عدد النساء اللاتي لجأن إلى جمعيّتها خلال سنة 2024 وصل إلى 585 حالة عنف. وكانت أكثر من 80 حالة، تتعلق بعنف داخل أماكن العمل.

    وتقول إن خيار الكلام فقط – دون أخذ إجراء رسمي – كثيرا ما ينبع من الخوف، لا من غياب الرغبة في العدالة؛ “فالضحية/أو الناجيّة تخشى السلطة وتخشى عدم التصديق”.

    لكن في واقعات أخرى قررت نساء المواجهة.

    فبعد مراحل من التردد، قررت ناشطة نسوية، كما تحكي لي فاطمة، أن تواجه من تتهمه بالاعتداء عليها. وبفضل الضغط الذي مارسته جمعيات نسوية داعمة، فتحت النقابة التي يعمل بها تحقيقا داخليا، شُكلت على إثره لجنة تأديبية مستقلة. جرى توثيق الشكوى، والاستماع إلى الشاكية، وانتهى الأمر بفصل الشخص المتهم من عمله.

    وفي واقعة أخرى، تلقى مركز “جمعية النساء الديمقراطيات” شكويين بالتحرش الجنسي من قبل رجل يعمل في إحدى المنظمات الحقوقية، فتواصل المركز مع رابطة تضم جمعيات حقوقية ونسوية، وفُتح تحقيق داخلي وتشكل مجلس تأديب اتُخذت عن طريقه إجراءات صارمة وطرد من وظيفته، وفقا لفاطمة.

    تقول فاطمة: “ثبت أن مثل هذا التضامن يمكنه قلب الموازين حتى عندما يكون الشخص المتّهم ذا نفوذ”.

    “الضحية تأتي عادة وهي تلوم نفسها”، تقول المعتمري. “حتى وإن كانت نسوية وواعية. الصدمة تفقدها أدوات التحليل. لذلك، دورنا يبدأ من إعادة بناء الثقة بالنفس، ثم فتح الطريق أمامها لاختيار المسار الذي ترتاح له: الحكي، أو المواجهة القانونية، أو كليهما”.

    شهدت تونس خلال العقدين الماضيين تطورا تشريعيا ملحوظا في مكافحة العنف الجنسي. إذ بدأت أولى محاولات تجريم التحرش الجنسي بشكل واضح في عام 2004، ويشترط تعريف الجريمة “التكرار والإمعان”، ما جعل من الصعب على كثير من الضحايا إثبات الاعتداء، وإن كان فعلاً واحدًا واضحًا وموثقًا.

    لكن تغيّر هذا في عام 2017، مع صدور القانون عدد 58، الذي يُجرّم العنف ضد النساء بجميع أشكاله، بما في ذلك التحرش الجنسي، والاغتصاب، ومحاولة الاغتصاب، ويُلغى شرط التكرار، إذ باتت الواقعة الواحدة كافية لتحريك الدعوى ومحاسبة الجاني. كما ينص القانون على عدم سقوط بعض هذه الجرائم بالتقادم. ومع ذلك، تقول ناشطات في المجتمع المدني إن القانون “لا يزال يحتاج إلى آليات تطبيق واضحة، وتدريب واسع للأجهزة القضائية والأمنية للتعامل الحساس مع الناجيات”.

    ويُشبه هذا من حيث المبدأ ما ينص عليه القانون البريطاني، حيث يُعتبر “التحرش الجنسي” جريمة بحد ذاتها، ولا يشترط تكرار الأفعال، بل يكفي أن يكون هناك سلوك غير مرغوب فيه ينطوي على طابع جنسي ويؤثر على كرامة الضحية أو يخلق بيئة عدائية أو مهينة لها.

    ومع ذلك، وفي حالات التحرش من خلال “الملاحقة أو المضايقة المستمرة”، فإن القانون البريطاني ينظر إلى الأمر كسلسلة من أفعال متكررة – على الأقل مرتين – لتصنيفها كجريمة تحرّش بموجب ” قانون الحماية من التحرش 1997″.

    رسم لامراة تحمل اوراق ورجل ينظر إلى الجزء الأسفل من جسمها

    صدر الصورة، Getty Images

    “توقعات مثالية وصدمات واقعية”

    في دولة عربيّة لم تكن تتوقع منظمة نسوية أن تهتزّ صورتها كمساحة آمنة بعد حادثة تحرش وقعت داخل مكتبها.

    المتهم بالتحرّش كان من الوجوه البارزة في الجمعية.

    تحكي إحدى مؤسسات الجمعيّة لبي بي سي”: “كنا مجموعة من النسويات الشابات، نؤمن بأننا نخلق مساحة مختلفة. لكن فجأة وجدنا أنفسنا نواجه عنفاً من الداخل”.

    الضحية الأولى لم تكن من الفريق. وصلت شهادتها إلى جمعيّة مختصة بدعم الناجيات؛ فأبلغت المنظمة النسوية بالشكوى. على الفور، جُمّدت عضوية المتهم، وتم ترتيب لقاء مع الضحية في مكان محايد. “تصرفنا على أساس مبدأ تصديق الضحية”، تقول الناشطة.

    لكن الواقعة لم تمر دون ضغوط. تعرّضت الجمعية لحملة تشكيك على وسائل التواصل. “اتهمونا بأننا فقدنا شرعيتنا كنسويات. لكن بعد نشر الواقعة على السوشال ميديا، بدأنا نستقبل شهادات أخرى. نساء تجرأن على الحديث بعدما علمن أننا تحركنا”.

    الحادثة دفعت الجمعية إلى مراجعة هيكلها الداخلي. طُرد المتحرش نهائياً، وأُعد دليل داخلي للتعامل مع حالات العنف يشمل الموظفين والمتطوعين. كما ُعيّن مسؤول حماية تلقّى تدريباً خاصاً، ليكون نقطة استقبال آمنة للشكاوى.

    تحذر الناشطة من فكرة “الشرعية النسوية” التي يستخدمها البعض لتبرير ممارساتهم. “بعض الأفراد يدخلون المساحات النسوية لكسب الشرعية، ثم يمارسون العنف من الداخل. بل وحتى بعض النساء الناشطات قد يُمارسن العنف ويدعين الحصانة باعتبارهن نسويات”.

    عن التجربة التونسية، تقول أمل خليف لبي بي سي، إن المنظمات النسوية والحقوقية في تونس تُعدّ من الفاعلين الأساسيين في مكافحة العنف ضد النساء، خاصة في ظل ما تصفه بـ”الدولة الأبوية التي تفتقر إلى مقاربة شاملة ومتكاملة”. وتوضح أن الدولة، رغم وجود قوانين، لا تعتمد رؤية موحّدة تربط بين الجوانب القانونية والاجتماعية والنفسية، ولا توفر حماية متكاملة للنساء الناجيات، ما يزيد من أهمية دور الجمعيات في تقديم دعم شامل يأخذ في الاعتبار مختلف جوانب حياة النساء.

    لكن خليف تحذّر من النظرة المثالية لهذه المؤسسات، إذ ترى أن بعض المتابعين يتوقعون منها أداءً خالياً من الأخطاء، بينما هي جزء من نفس المجتمع ونفس البُنى السلطوية والثقافية التي تنتج العنف أساساً. وتقول: “المنظمات لا تعمل في عوالم بديلة، بل تضم أفراداً من نفس النسيج المجتمعي. والتغيير داخلها يتطلب وقتاً ومراجعة مستمرة للمفاهيم والممارسات”.

    وتشير إلى أن “الرصيد الفكري والتجريبي” بعد أكثر من عقد على الثورات العربية، يمكن أن يكون أرضية قوية لإعادة بناء ثقافة مؤسساتية بديلة، تقوم على الممارسة والنقد لا على النوايا الحسنة فقط.

    تتفق الباحثة والناشطة النسوية المصرية إلهام عيداروس مع أمل خليف.

    إذ ترى أن المجتمع الحقوقي لا يعيش بمعزل عن المجتمع، بل يتأثر بالبنى الجندرية والطبقية نفسها التي تنتج الانتهاكات في المجتمع الأوسع.

    “المنظمات الحقوقية ليست محصّنة”، تقول. “لكنها تتميّز – رغم كل شيء – بوجود مستوى أعلى من الوعي، ومحاولات، وإن كانت غير كافية، لوضع سياسات داخلية لمناهضة العنف”.

    من واقع مشاركتها في لجان تحقيق داخل عدد من المؤسسات، سواء من موقع إداري أو كطرف مستقل، تشير عيداروس إلى أن هذه السياسات قد تشكّل مسارات للعدالة الإدارية، لا سيما حين تكون الطرق الرسمية – كاللجوء إلى القضاء – مغلقة أو محفوفة بالمخاطر، في ظل علاقة متوترة بين الدولة والمجتمع المدني.

    لكنها تشدّد في الوقت ذاته على أن هذه السياسات وحدها لا تكفي. “وجود لوائح داخلية أمر مهم، لكنه لا يغني عن الحاجة لقانون عادل وفعّال يُلزم الجميع”، تقول.

    رسم لامراة تجلس خلف مكتب وامامها لابتوب ورجل يوجه اصبعه نحوها بغضب

    صدر الصورة، Getty Images

    حين يتحوّل “الوعد بالحب” إلى وسيلة للاستغلال

    مرة أخرى، يتحوّل مكان العمل إلى مسرح لانتهاك الثقة. هذه المرة، داخل مؤسسة حقوقية في مصر.

    تحت اسم مستعار “دعاء”، تروي شابة مصرية في الثلاثينيات من عمرها حكايتها لبي بي سي. انتقلت من إحدى المحافظات إلى القاهرة، باحثة عن الاستقلال وحياة مهنية في مجال العمل الحقوقي.

    التحقت بإحدى المؤسسات القانونية والحقوقية في أواخر العشرينيات من عمرها، وهناك تعرّفت على زميل يكبرها سناً ويملك شبكة واسعة من المعارف والنفوذ في المجال. تقول إنه تقرّب منها تدريجياً بادعاء الإعجاب، ثم بوعد بالزواج. لكنها اكتشفت لاحقاً – كما تقول – أن العلاقة التي بدت لها في البداية إنسانية تحولت إلى سلسلة من الانتهاكات النفسية، والمادية، بل وحتى الجنسية.

    تقول دعاء إنها لا تفكر في تقديم شكوى رسمية أو طلب تحقيق داخلي، ليس لأنها تشك في تجربتها، بل لأنها ببساطة “لا تثق في عدالة المسارات القائمة”.

    “لن يُحاسب”، تقول. “أعرف هذا جيداً. هو يعرف كيف يفلت من أي مسؤولية، وأنا لا أملك طاقة المواجهة مع شخص مثله”.

    “خارح موعد العمل”

    في مكتبها بإحدى العواصم العربية، جلست محامية تستعيد لي تفاصيل حكايات كثيرة سمعتها خلال عملها، لكنها لا تزال تذكر واحدة منها تحديدًا، لأنها استمرت لأربع سنوات متواصلة داخل منظمة حقوقية دولية مقرها تلك العاصمة.

    بدأت الحكاية بين موظفين يعملان على المشروع ذاته. تدريجيًا، بدأ المدير، الذي يكبرها سنًا، في عزلها عن الفريق، يطلب لقاءها مساءً، يمدّد ساعات العمل بحجج واهية. ثم بدأت المجاملات، إلى أن حاول تقبيلها داخل المكتب.

    عندما تقدّمت الفتاة بشكوى رسمية، أنكر كل شيء، واتهمها بمحاولة سرقة أفكار بحثه الأكاديمي. ورغم فتح تحقيق داخلي من قبل المقر الرئيسي للمنظمة، كانت النتيجة مجرد “نقل” للمدير إلى موقع آخر، دون محاسبة تُذكر.

    لكن التحرش لم يتوقف. بعد نقله، كما تقول، بدأ يلاحقها إلكترونيًا، يرسل لها تعليقات ورسائل، يدخل على حساباتها. عادت إلى المنظمة بشكوى جديدة، لكن الرد كان صادماً: “ما يحدث خارج بيئة العمل لا يدخل ضمن صلاحيات المنظمة”.

    رسم لرجل يمد يده من تحت الطاولة ليلمس ركبة امرأة

    صدر الصورة، Getty Images

    “المتهم صديقي”

    تذكر لي محامية تعمل في إحدى الدول العربية رسالة وصلت إليها من امرأة مرتبكة. الرسالة حملت اتهامًا لرجل يعمل داخل مؤسسة قانونية، قالت إنه تحرّش بها وأرسل لها صورة فاضحة عبر فيسبوك. لم تكن هذه شكوى عابرة. فالمشتبه به، كما تروي المحامية، كان صديقًا مقرّبًا لها شخصيًّا.

    تقول: “كان من الواضح أنّ المرأة كانت تبحث عن مساحة آمنة للبوح، بعيداً عن الأنظمة الرسمية التي لا تمنحها الأمان”.

    رغم صعوبة موقفها، اختارت المحامية أن تضع مشاعرها جانباً. وتقول إن الخطوة الأولى في مثل هذه الحالات تبدأ دائمًا من سؤال بسيط للناجية:

    “ماذا تحتاجين؟ هل ترغبين في التقدّم بشكوى؟ هل نبحث عن شهادات مشابهة؟”

    في هذه الواقعة، فضّلت الضحية أن تُنشر شهادتها بشكل مجهّل على وسائل التواصل الاجتماعي، أملاً في أن تجد نساء أخريات تجرأن على كسر الصمت. ومع الوقت، بدأ يتكشّف نمط متكرّر من التحرّش والملاحقة مرتبط بالشخص نفسه. شهادات عدة خرجت للعلن، لكنها لم تمرّ من دون ثمن.

    تقول المحامية إن الضغوط التي واجهتها لم تأتِ من الدولة هذه المرة، بل من مؤسسات نسويّة ونشطاء حقوقيين. “كان هناك ترهيب حقيقي. طُعِن في مهنيتي، واتُهمت بأنني أخرق التضامن، فقط لأنني ساعدت ناجيات على البوح”.

    في مصر، كما في دول عربية أخرى، باتت شهادات النساء تنتشر في فضاءات إلكترونية كبديل عن المسارات الرسمية. منذ عام 2020، تحديدًا بعد قضية فندق “فيرمونت” الشهيرة، تصاعدت ظاهرة مشاركة الشهادات على إنستغرام وفيسبوك وتويتر، كأداة للتضامن وكسر الصمت، خصوصًا في ظلّ عدم ثقة العديد من النساء في إجراءات التقاضي، وثقافة التشكيك، وصعوبة الوصول إلى العدالة، كما وصفت لي ناشطات.

    “لا أحد يريد أن يلجأ للسوشيال ميديا، لكنها أحيانًا الوسيلة الوحيدة لخلق صدًى، أو حتى حماية أخريات من الوقوع في نفس الفخ”، تقول المحامية.

    وفي ظل تصاعد الشهادات حول العنف الجنسي ضد النساء في مصر، برزت مبادرة “دفتر حكايات” كمساحة بديلة. أطلقتها مجموعة من النسويات المصريات المستقلات، لتمكين النساء من مشاركة تجاربهن مع العنف الجنسي، دون خوف أو شرط للإثبات.

    جاءت المبادرة عقب موجة شهادات علنية بدأت في يوليو/تموز 2020، حين شجعت قصص البوح والتعافي الكثير من النساء على كسر حاجز الصمت.

    لكن القائمات عليها يوضحن أن الهدف ليس التحقيق أو المحاسبة، بل تقديم منصة نسائية آمنة للتعبير، والتوثيق، والدعم النفسي، كجزء من مسار فردي وجماعي نحو التعافي.

    هل تؤثر تهمة التحرش على إيجاد عمل جديد؟

    في إحدى القضايا التي تابعتها المحامية المصرية نسمة الخطيب، اكتشفت أن الشخص المتهم في شكوى تحرّش سبق طرده من مؤسسة حقوقية أخرى بسبب تورطه في انتهاكات مشابهة. وحين تواصلت مع جهة عمله السابقة، أقرّ المسؤولون بذلك قائلين إن انتهاء عقده تزامن مع شكاوى ضده بالتحرش الجنسي من قبل زميلاته، فلم يجددوا له العقد. وعمل لاحقًا في مؤسسة جديدة.

    تقول نسمة إن ما حدث كان نتيجة غياب الشفافية وآليات المساءلة داخل بعض الكيانات الحقوقية. وتضيف:

    “لو كانت هناك شفافية، لما أعيد توظيفه ببساطة في مؤسسات أخرى تتعامل مع النساء أو تدّعي مناصرتهن”.

    تستشهد بحالة أخرى، تكشف ما تصفه بـ”فجوات العدالة المؤسسية”: شكوى ضد حقوقي بارز، أدلت الضحية بشهادتها أمام لجنة تحقيق مستقلّة تضم أفرادا من منظمات حقوقية، وانتهى التقرير بوصف ما تعرّضت له بـ”الفعل المشين”. لكن ما حدث بعد ذلك كان، بحسب وصفها، صادماً: اكتفى المعتدي بتقديم اعتذار مكتوب، ثم عاد لاحقًا للظهور في لقاءات وموائد حوار نسوية، دون مراجعة أو حتى إشارة لما ارتكبه.

    وترى نسمة أن بعض لجان التحقيق تفشل في تسمية الانتهاك باسمه الحقيقي، فتستخدم تعابير مثل “سلوك غير لائق” بدلًا من “تحرش جنسي”، مما يضعف ثقة النساء بهذه المسارات, بحسب وصفها: “العديد من الناجيات لا يشعرن أن التحقيق سينصفهن، فيقررن الصمت أو الانسحاب”.

    وحين تسدّ الأبواب الداخلية، لا يكون القضاء خياراً آمناً أيضاً، كما تقول نسمة. “المسار القانوني مخاطرة في حد ذاته. السبب هو تعقيد الإجراءات، ضعف إنفاذ العدالة، والأهم، وجود ثغرات قانونية مثل المادة 17 من قانون العقوبات المصري”.

    هذه المادة، كما تشرح، تمنح القضاة سلطة استعمال الرأفة وتخفيف العقوبة حتى درجتين، حتى في قضايا ثبت فيها وقوع تحرش أو اعتداء. وتنص المادة على أنه يجوز في مواد الجنايات إذا اقتضت أحوال الجريمة رأفة القضاة، أن:

    “تُبدل عقوبة الإعدام بالسجن المؤبد أو المشدد، والسجن المؤبد بالسجن المشدد، والمشدد بالسجن أو الحبس الذي لا يقل عن ستة أشهر. كما يمكن تخفيض عقوبة السجن إلى الحبس، بشرط ألا تقل عن ثلاثة أشهر.”

    تختصر نسمة الموقف بعبارة: “ممكن ناجية تكون عملت كل حاجة: بلّغت، شهدت، وثّقت، وصمدت. لكن في الآخر، القاضي يقرر إن الجاني شاب صغير، أو من عيلة كويسة، فيخفف الحكم”.

    ولا يتوقف العبء عند هذا الحد، كما تقول؛ فهناك كلفة اقتصادية، ضغوط نفسية، صعوبة الإثبات. لكن “الأخطر”، برأيها، هو “ثقافة التشكيك الجمعية”، التي تجعل الكثير من النساء يخترن الصمت، أو يتحدثن فقط داخل مساحات نسوية مغلقة بعيداً عن المحاكم والعناوين الرسمية.

    هل يجب انتظار شكوى رسمية؟

    تشير عيداروس إلى جدل داخل المؤسسات الحقوقية حول كيفية التعامل مع الشهادات المجهّلة التي تُنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. “الإجراءات تبدأ عادة بشكوى رسمية من الضحية”، تشرح.

    “لكن ماذا لو نُشرت شهادة مكتوبة دون أن تتقدّم الضحية بشكوى؟ هل نتجاهلها؟ أم نبدأ بالتحقيق؟”

    ترى عيداروس أن فتح تحقيق كامل دون موافقة الضحية “غير أخلاقي”، لكنه لا يُبرر تجاهل الشهادة، خاصة إذا كانت منشورة علنًا.

    وتقول إن ملاحظتها – وزملاءها في لجان التحقيق – لهذه الثغرة ساعدتهم على تطوير آليات مرنة داخل بعض المؤسسات، من بينها “حزب العيش والحرية”، المنبثق عن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، تتيح التفاعل مع الشهادات المنشورة بمسؤولية، دون المساس بإرادة النساء.

    توضح أن هذه الآليات تستند إلى متابعة الشهادات المنشورة، والتواصل مع من قدّمنها – إن أمكن – لتقديم ضمانات بالحماية، وتشجيعهن على التقدّم بشكوى رسمية. وإن رفضن ذلك، تُسجّل الوقائع ضمن سجل داخلي يُرجع إليه في حال ظهور شهادات أخرى متقاربة.

    وتشدد على أن من مسؤولية الإدارات والمؤسسات ألا تكتفي بوضع السياسات، بل تعلنها بوضوح، وتضمن سهولة الوصول إليها.

    وتشبه هذه المقاربة ما يجري في بريطانيا، حيث ينص قانون Equality Act 2010 وسياسات مؤسسات كبرى مثل بي بي سي، على ضرورة فتح تحقيق داخلي عند ظهور شكاوى أو شهادات علنية، حتى إذا لم ترغب الضحية في تقديم بلاغ رسمي. يُعتبر ذلك التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا لحماية الموظفين والمستفيدين وضمان بيئة آمنة. ومع ذلك، تُحترم إرادة الضحية تمامًا، فلا تُجبر على المشاركة في التحقيق، بل تُقدّم لها خيارات الدعم والحماية. إذا رفضت التعاون، يُسجّل ذلك ضمن مسار التحقيق، وتستمر المراجعة بناءً على ما توفر من أدلة أو شهادات أخرى.

    رسم لرجل يضع يديه على كتفي امراة

    صدر الصورة، Getty Images

    ماذا عن غير الموظفين؟

    وتلفت عيداروس إلى ثغرة قانونية تعيق أحيانًا فعالية هذه السياسات: “معظم اللوائح الداخلية تلزم الموظفين فقط، لكنها لا تُطبَّق على المتطوعين أو المتعاونين الخارجيين، رغم أنهم قد يكونون في موقع سلطة أيضاً”.

    في إحدى التدريبات التي شارك فيها بعض الرجال، وبعد نشر الصور، وصلت شكاوى بأنهم متحرشون أو معنِّفون. أوقفت الجمعية التعامل معهم فوراً، ووجّهت تحذيرات إلى الجمعيات الشريكة.

    وتدعو عيداروس إلى مقاطعة الجمعيات التي تُغطّي على المتحرشين: “لا دعوات، لا بيانات مشتركة، لا تمويل مشترك. الضغط الجماعي له تأثير حقيقي”.

    وتختم: “نحن نخطئ ونتعلم، لكن الأهم أن نمتلك أدوات واضحة للردع والمحاسبة. لا أحد يملك قرون استشعار، لكن يمكننا بناء آليات حماية فعّالة”.

    يبدأ التحقيق داخليًا بلجنة محايدة تضم رجالًا ونساء لضمان الراحة النفسية للمبلّغة. وقد يصل القرار إلى فصل الموظف أو الإحالة إلى القضاء.

    تروي محامية: في منظمة أخرى كانت تقيم ورش عمل، كان أحد المسؤولين يبدأ تحرشه الإلكتروني بالمتدربات خلال الورشة، يتبعها برسائل شخصية وتلميحات رومانسية، ثم تعليقات فاضحة: “اشتقتُ لك. لم أعد أحتمل مشاعري”.

    بعضهن انسحبن بهدوء، وفضلن الحظر الإلكتروني على الدخول في معركة يصعب خوضها.

    كثيرات أخبرن المحامية لاحقًا أنهن فضّلن الصمت حفاظًا على فرص التدريب والعمل في هذا المجال.

    في حالات مشابهة، تقول المحامية إن الضحايا غالبًا ما يلجأن إلى خيار “البلوك” أو الانسحاب في صمت. فالإبلاغ يهدد مكانتهن المهنية، أما المواجهة فربما تكلفهن وظيفتهن أو سمعتهن.

    رسم لرجل يضع يده على كتف امرأة تحني رأسها

    صدر الصورة، Getty Images

    “كان الكل يعرفه، لكن الكل سكت”

    في القاهرة، حيث تمتزج شعارات التحرّر مع ضجيج معارك الحياة اليومية التي تواجهها نساء في الشارع، لا تُروى كل القصص في العلن. بعض الحكايات تظل عالقة في مساحات رمادية، يتردّد أصحابها في النطق بها خوفاً من العزلة.

    بين دفاتر الجامعة ونقاشات الحركات النسوية، نشأت زينة (اسم مستعار)، تحمل شغف التغيير والعمل الأكاديمي. لم تكتفِ بمحاضرات العلوم السياسية، بل انغمست في النشاط الحقوقي، تدرّس وتعمل وتراقب، حتى بدأت ترى ما لا يُقال.

    “كنت أظن أن المساحات الحقوقية والنسوية أكثر أماناً من غيرها”، تقول. لكن مع الوقت، تشكّلت أمامها خريطة موازية، تحكمها شبكات النفوذ والعلاقات. حيث تُدفن شهادات النساء تحت شعارات مثل “وحدة الصف” أو “عدم تشويه الحركة”.

    في إحدى المنظمات، كانت تصل شهادات سرية عن انتهاكات متكررة، تطال نساء شابات على يد شخصيات بارزة يُحتفى بها في المؤتمرات، وتُمنح منصات الدعم. “كلما ظهرت شهادة، ظهرت معها آلة التعتيم”، تقول زينة. “ينكرون، يبرّرون، ثم يهاجمون الشاهدة أو من صدّقها”.

    في إحدى الشهادات، تروي زينة أن ناشطة واجهت تهديداً مبطناً من محيط نسوي بسبب نشرها لتجربتها مع حقوقي تتهمه الناشطة بالتحرش. “كان الكل يعرفه، لكن الكل سكت”، تقول.

    الأسوأ، بحسب وصفها، كان ما سمّته بـ”منظومة الحماية العكسية”. بدلاً من أن توفّر المؤسسات الحماية للنساء، كانت تحصّن المتهمين بالسكوت، والتشكيك، وأحياناً بالهجوم الاستباقي. من يخرج عن الصف، يُتّهم بأنه “يخدم أجندة معادية”، أو أنه “مدفوع من خصوم سياسيين”.

    “من تحاول فضح الانتهاكات تُشيطن. بعض الناشطات طُردن فعلياً من المجال، أُغلقت أمامهن أبواب المشاريع، وتحوّلن إلى منبوذات”.

    “ما يحدث هو نسخة نسوية من الدولة الأبوية”، تقول، بنبرة لا تخلو من السخرية المرّة. “نفس أدوات القمع، نفس مبررات التعتيم، لكن بأصوات ناعمة وبيانات براقة”.