يتزايد الخطر وتتفاقم المؤشرات منذ أكثر من عامين ولا نزال ننظر إلى درجات الحرارة المتطرفة على أنها تهديد مستقبلي، لا حاليّ، وإجراءاتنا تجاه مواجهة التغيير المناخي لا تعدو كونها محاولات بعيدة عن الواقع، مع تسجيل درجات حرارة غير مسبوقة في قارات ودول العالم، بما فيها أوروبا، والمحيطات والبحار، والخيارات أمام العالم تنحصر في المواجهة والتأقلم مع موجات الحر.

وقد شهدت أوروبا الغربية، شهر يونيو 2025، أعلى حرارة خلال شهر يونيو على الإطلاق، وبات ارتفاع درجات الحرارة خلال شهر مايو، الوضع الطبيعي في العالم، إذ سجل مايو 2025، أدفأ شهر مايو على الإطلاق بعد مايو 2024، بمتوسط حرارة بلغ 15,79 درجة مئوية. وفي المحيطات، بلغت الحرارة السطحية 20,79 درجة مئوية، في مايو 2025، وهو ثاني أكثر شهر حرارة في التاريخ الحديث، بعد مايو 2024. وسجلت موسكو، في يوليو، موجة حر خانقة تجاوزت الحرارة فيها 35 درجة مئوية، وهو رقم لم يُسجّل منذ نحو 30 عامًا، إضافة إلى موجات الحرّ القياسية في آسيا وأفريقيا، وحرائق الغابات في أمريكا الشمالية.

ووصلت إلى البحر المتوسط موجات حرّ هي الأعلى في شهر يونيو 2025؛ خاصة في النصف الغربي، وبلغ متوسط درجة حرارة سطح البحر الذي ترتفع حرارته بشكل أسرع من باقي المحيطات، إلى 23,86 درجة مئوية في يونيو، متجاوزًا رقمه القياسي السابق في يونيو 2022 الذي بلغ 23,72 درجة مئوية، أما بالنسبة إلى المحيطات على المستوى العالمي، فشهدت هذه السنة ثالث شهر يونيو الأكثر حرارة، بعد شهري يونيو من 2023 و2024، وبلغت متوسط حرارة السطح 20,75 درجة مئوية، وفق مرصد «كوبرنيكوس» الأوروبي.

وإذا رجعنا بالزمن لأشهر، لوجدنا أن عام 2024 شهد أعلى درجات حرارة مسجلة على السطح وفي أعماق تصل إلى 2000 متر، إذ تُخزن معظم الحرارة الزائدة من الاحتباس الحراري العالمي في المحيطات، بينما تؤدي المحيطات دورًا مهمًّا في تنظيم مناخ الأرض، وتساعد في تبريد الغلاف الجوي وتمنع ارتفاع درجات الحرارة بشكل أسرع، لكن مع درجات الحرارة المرتفعة، فإن التأثير يطال الكائنات البحرية بتهديد حياة الشعاب المرجانية والأسماك، ومن ثمّ انخفاض الإمدادات الغذائية من البحر، وهو ما يفاقم معضلة الأمن الغذائي العالمي، مع احتمال ذوبان الجليد التدريجي في المناطق القطبية، ما يعني ارتفاع مستوى سطح البحر، وتهديد المدن الساحلية والجزر، وزيادة خطر الفيضانات والأعاصير والعواصف وتدمير البنية التحتية وتهجير السكان.

ولا يبدو أن العالم سيقف عند هذه الوتيرة، والمستقبل سيحمل موجات حر أكثر شدة بسبب التغير المناخي، مع التأثير على حياة الإنسان بوقوع ضحايا نتيجة للحرارة، وتوقف بعض أماكن العمل، والضغط على شبكة الكهرباء؛ ولاسيما أن الاحترار بين يونيو 2024 ومايو 2025، وصل إلى 1,57 درجة مئوية مقارنة بفترة ما قبل الثورة الصناعية، وتتوقع الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ ‎(IPCC) احتمالًا بنسبة 50% أن المناخ قد يرتفع بمعدل 1,5 درجة مئوية في المتوسط بحلول عامي 2030 و2035.

ولمواجهة ارتفاع درجات الحرارة في البر والمحيطات، ينبغي تقليل انبعاثات غازات الدفيئة والاتجاه إلى ممارسات صديقة للبيئة، وحماية البيئة البحرية، وإنشاء مناطق محمية لحماية النظم البيئية المتضررة، والاستثمار في التكنولوجيا الخضراء لتحسين كفاءة استهلاك الطاقة وتقليل الانبعاثات، فالارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة يعود إلى تأثير غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن الأنشطة البشرية، ويفاقم المخاطر البيئية والصحية في مناطق واسعة من العالم.

إن الحرارة القياسية التي اجتاحت آسيا وأوروبا ليست موجة صيفية عادية، وإنما إنذار باحتمال سقوط ضحايا جدد (تقديرات أممية بوصول ضحايا الكوارث المناخية إلى أكثر من 185,000 قتيل ومفقود في 2024)، وكشفٌ للاستعداد والجاهزية الصحية والاجتماعية، واحتمال تحقيق خسائر اقتصادية ضخمة تشمل بنى تحتية وأراض زراعية وشبكات كهرباء، مع تواصل ارتفاع درجات الحرارة فوق المعتاد وتغير وتيرة هطول الأمطار، وإن تقدم العلم في توقع الكوارث الطبيعية تبقى أمامنا معضلات التكيف والمواجهة.

لقد بات من الواضح أن المضي بالوتيرة الدولية الحالية نفسها في مواجهة تغير المناخ لم يعد كافيًا، والعمل الفردي لن يعالج الأزمة، وحان الوقت لاتخاذ إجراءات جماعية تضع البيئة والمناخ أولوية قبل أي شيء، فتغير المناخ لا يمكن اعتباره إلا من التهديدات الكبرى في العالم؛ خاصة إذ تسببت الآثار في التأثير على الأراضي والغذاء والمياه وحياة الإنسان والهجرة، إضافة إلى الاضطراب السياسي، ولهذا نحتاج إلى تدابير للحماية والتكيف، ولا نضيع كل الوقت في الانقسام الدولي على الأهداف وسبل المواجهة، باعتماد ركائز أساسية تشمل التوسع في مشروعات الطاقة النظيفة، وإدارة وخفض الانبعاثات الكربونية، وسد الفجوة التمويلية للبلدان النامية في تنفيذ مشروعات ومبادرات مناخية، فالعالم لا يزال بعيدًا عن مسار أهداف التنمية المستدامة 2015، وفق تقديرات الأمم المتحدة، وضعف التمويل يتصدر العقبات، لكن العقبة الكبرى تتمثل في عدم الإيمان بقضية المناخ، برغم كل التغيرات على أرض الواقع.