منذ انتهاء الحرب الأخيرة بين “حزب الله” وإسرائيل، دخل لبنان مرحلة جديدة من النقاش السياسي والأمني حول مصير ترسانة السلاح التي يمتلكها الحزب. لكن هذا النقاش لم يعد يتعلق فقط بالصواريخ الدقيقة والطائرات المسيرة، بل بات يتمحور حول ما هو أعمق: هل مشكلة لبنان مع الحزب هي فقط صواريخه البعيدة المدى، أم أيضاً مع ترسانته الخفيفة والمتوسطة التي يخشاها الداخل؟
وفي خضم النقاش حول مستقبل هذا السلاح، لا تتوقف الاعتراضات عند حدود الجدل حول السلاح الثقيل أو الخفيف فقط. فهناك شريحة واسعة من اللبنانيين، ومن بينهم سياسيون وخبراء أمنيون، يرفضون أصلاً فكرة تجزئة المشكلة أو التعامل مع ملف السلاح بمعزل عن المنظومة العسكرية والأمنية والاقتصادية المتكاملة التي يمتلكها الحزب.
تفكيك البنية العسكرية
بحسب المعترضين، يمتلك “حزب الله” منظومة مالية كاملة موازية للدولة من خلال شبكة الجمعيات وشركات الصيرفة والقرض الحسن، وهي جزء لا يتجزأ من سلطته التي يمارسها خارج إطار مؤسسات الدولة الشرعية. لذلك، برأيهم أي محاولة لحصر النقاش في مسألة الصواريخ والسلاح الثقيل وحدها هي عملية التفاف على جوهر المشكلة. كما يعدون أن ما تحقق عملياً في ملف السلاح لا يتعدى خسائر الحزب بسبب الحرب مع إسرائيل. فالترسانة الصاروخية الثقيلة التي كانت مصدر القلق الأساس، تدمر جزء كبير منها تحت ضربات الطيران الإسرائيلي خلال المواجهة الأخيرة، كما سقط في تلك الحرب معظم قيادات الصف الأول والثاني في البنية العسكرية للحزب. لكن الدولة اللبنانية، حتى الآن، لم تقم بأي خطوة تنفيذية جدية في ملف نزع السلاح.
في السياق تكثر التحليلات والتكهنات حول كيفية التعامل مع هذا السلاح، عبر السلطة اللبنانية داخلياً حتى إقليمياً وخارجياً.
فبينما بدأت أميركا تلوح علناً بإمكانية سحب يدها من لبنان إذا استمرت المماطلة بحسم قضية السلاح، وهو ما ينذر بكارثة اقتصادية وسياسية، خرجت تسريبات إعلامية لتتحدث عن احتمال فتح المجال للسلطات السورية لاستهداف مجموعات “حزب الله” في مناطق حدودية لبنانية، تحت شعار حماية الأمن القومي السوري من التمدد العسكري للحزب في البقاع، وربما السماح بتشكيل منطقة أمنية عازلة قرب الحدود السورية تحت سيطرة دمشق.
وكذلك يبقى السيناريو الأخطر هو أن يتحول السلاح المتبقي إلى ذريعة جديدة لإسرائيل لشن جولة ثانية من الحرب تحت عنوان استكمال نزع السلاح بالقوة، في حال لم تبادر الدولة اللبنانية إلى وضع خطة جدية تنهي هذه المرحلة الرمادية.
يمتلك “حزب الله” ترسانة متنوعة من الأسلحة تقسم بين السلاح الثقيل والسلاح الخفيف والمتوسط (ا ف ب)
بين السلاح الثقيل والخفيف لـ “حزب الله”
صعبة هي مهمة تقديم جردة عما يمتلكه الحزب من سلاح، باعتبار أنه منظمة غير رسمية أو تابعة للدولة، كما أن عمله منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي كان في الخفاء غير معلن، لكن في الوقت عينه تجمع تقارير مراكز الدراسات العسكرية العالمية، والتقارير الاستخباراتية الغربية، على أن “حزب الله” يمتلك ترسانة متنوعة من الأسلحة تقسم إلى فئتين رئيستين: السلاح الثقيل والسلاح الخفيف والمتوسط.
ووفق هذه التقارير فإن السلاح الثقيل منح الحزب “قوة الردع الاستراتيجي” التي كثيراً ما بنى “شرعيته” وبرر تسلحه وسرديته السياسية، وهو سبب القلق الرئيس لإسرائيل والغرب لعقود وكان يشمل صواريخ أرض-أرض متوسطة وبعيدة المدى ومنها “فاتح” 110 و”زلزال” 1 و2 و3، و”سكود” التي حصل عليها من النظام السوري السابق، إضافة إلى “خيبر1” وهو نسخة محسنة من صواريخ “غراد”.
يضاف إلى ما ذكر سابقاً الصواريخ الدقيقة التوجيه التي طورها الحزب بدعم إيراني ضمن مشروع “تحويل الصواريخ التقليدية إلى دقيقة”، إلى جانب راجمات الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيرة المسلحة والاستطلاعية.
ناهيك بصواريخ بحرية مضادة للسفن ومنظومات الدفاع الجوي وصواريخ كورنيت الروسية.
كل هذه الأسلحة شكلت سابقاً ما يسمى “مظلة الردع” التي بناها الحزب منذ ما بعد حرب يوليو (تموز) 2006، بدعم مباشر من إيران، وبتمويل من شبكات اقتصادية مالية موازية للدولة، لكن مصيرها اليوم غير محسوم خصوصاً أن بعض التقارير تحدث عن ضرر كبير لحق بها خلال الحرب الأخيرة، بالتالي الحديث عن صفقة تشمل تسليم هذا السلاح هو غير دقيق باعتبار أن جزءاً منه لم يعد موجوداً، إما بفعل الضربات أو نظراً إلى استعماله وعدم القدرة على إعادة التسلح مرة جديدة.
أما السلاح الخفيف والمتوسط، فهو الذي يستخدم بطبيعته العسكرية في النزاعات المحلية، وحماية النفوذ على الأرض ويشمل:
البنادق الآلية مثل “كلاشنيكوف AK-47.” والرشاشات المتوسطة والثقيلة ومدافع رشاشة من نوع “دوشكا” وقاذفات روسية تستخدم ضد الآليات والمدرعات.
إضافة إلى الصواريخ المضادة للدروع المحمولة من نوع “كورنيت” (نسخة مخصصة للاستخدام الفردي أيضاً)، كونكورس وميلان، مدافع الهاون، القذائف الصاروخية القصيرة المدى، صواريخ كاتيوشا العبوات الناسفة، وغيرها.
مخاوف الداخل
مناسبة الحديث عن سلاح “حزب الله” بشقيه الثقيل والخفيف، هو أن تقارير عدة محلية وإقليمية خرجت في الأسابيع الماضية لتتحدث عن صفقة أو اتفاق قد تم التباحث فيه يقضي بتسليم الحزب سلاحه على مراحل، أولها وأساسها تسليم سلاحه الثقيل أو ما تبقى منه. هذه التقارير دفعت الداخل اللبناني ومتابعين لطرح تساؤلات حول “منطقية” هذا القرار باعتبار أن السلاح الثقيل هو فعلياً ما يزعج إسرائيل، إنما المتوسط والخفيف يثير مخاوف الداخل اللبناني، بخاصة إن استعمل مرة جديدة على غرار ما حصل في “غزوة بيروت” عام 2008.
وذهب البعض أبعد من ذلك بالسؤال “ما حاجة الحزب لسلاحه المتوسط والخفيف في الداخل بعد تسليم السلاح الذي يصل استراتيجياً إلى العمق الإسرائيلي”؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما بعد الحرب ليس كما قبلها
يكشف مصدر أمني لبنان أن الأمور تغيرت عسكرياً بصورة كبيرة بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل، حيث دمر الطيران الإسرائيلي جزءاً كبيراً من الترسانة الثقيلة للحزب والخسائر أتت كبيرة في هذا المجال كبيرة، ويقول “جرى استهداف مستودعات الصواريخ الدقيقة في الجنوب والبقاع، ومنصات الإطلاق المخفية تحت الأرض، ومخازن الطائرات المسيرة، إضافة إلى مراكز القيادة والسيطرة التابعة للوحدة 133، الذراع العملياتية الخارجية للحزب”.
ويكشف عن أن التطورات دفعت المجتمع الدولي إلى تكثيف الضغوط على لبنان لتسليم ما تبقى من السلاح الثقيل أولاً، وأن الولايات المتحدة طرحت تسليم الصواريخ البعيدة والمتوسطة، الطائرات المسيرة، ومنظومات الدفاع الجوي إلى الجيش اللبناني، بهدف منع الحزب من امتلاك قوة تتجاوز الدولة وتخلق تهديداً للاستقرار الإقليمي، ويعد أن “المشكلة ليست فقط فيما يمتلكه الحزب لمواجهة إسرائيل، بل فيما يستخدمه لضبط الداخل اللبناني والتحكم بمفاصل الحياة السياسية والأمنية.
في السياق يروج بعض القوى السياسية، وحتى مسؤولين رسميين، لفكرة أن نزع السلاح الثقيل قد يكفي لتأمين الاستقرار. وكان رئيس الجمهورية اللبناني جوزاف عون، قال في إحدى إطلالاته إن “الأولوية اليوم هي لنزع السلاح الثقيل والمتوسط. أما السلاح الخفيف، فهو جزء من ثقافة اللبنانيين، ومن الصعب نزعه دفعة واحدة”.
لكن أوساطاً سياسية وجزءاً كبيراً من الشعب اللبناني يعد أن الخطر الحقيقي في الداخل هو السلاح الخفيف والمتوسط الذي يكرس سيطرة “حزب الله” على القرار السياسي ويمنع الدولة من فرض سلطتها، وبرأيهم “لا تحتاج إلى صاروخ سكود لتمنع قاضياً من اتخاذ قرار أو لتعطل عمل مؤسسة”، بل يكفي أن يكون في يدك رشاش متوسط، أو أن تنشر عشرات المسلحين في الشوارع، كما حصل مراراً في بيروت.
ويرى هؤلاء أن “حزب الله” يمتلك بنية أمنية وعسكرية كاملة، تتضمن خلايا مدنية مسلحة داخل الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع، وهي بمثابة شبكة كاملة توازي أجهزة الدولة، وقدرة على نشر مئات المسلحين في الشوارع، وأن الدولة لا يمكن أن تقوم في ظل جيش رديف مسلح خارج عن سيطرتها، ومن ثم يفترض تفكيك كامل منظومة الحزب البشرية والعسكرية.
مماطلة لبنانية في زمن متسارع
يقول المحلل السياسي مروان الأمين، إن المجتمع الدولي بدأ صبره ينفد إزاء مماطلة السلطة اللبنانية في معالجة هذا الملف، بخاصة في ما يتعلق بمصير السلاح شمال الليطاني. ففي الجنوب، وتحديداً جنوب الليطاني، هناك نوع من التفاهم الضمني الذي يتيح للجيش اللبناني وقوات “يونيفيل” مراقبة الوضع، وغالباً ما يتم ذلك بموافقة “حزب الله” نفسه.
ويشير إلى أن المجتمع الدولي يريد من الحكومة اللبنانية قراراً واضحاً في ما يتعلق بنزع سلاح الحزب على كامل الأراضي اللبنانية، وحصره بيد الجيش والقوى الشرعية، وتنفيذ هذه الخطة خلال خمسة أشهر متبقية من العام الحالي، ويضيف أن “الرئيس عون كان قد أعلن أنه يريد الوصول إلى حل نهائي لموضوع السلاح قبل نهاية العام، لكن حتى الآن لا شيء يوحي بأن هذا الالتزام قيد التنفيذ. هناك كلام كثير وتصريحات رسمية، لكن التطبيق العملي غائب”.
وبرأيه الملف لا يتعلق فقط بسلاح “حزب الله”، بل أيضاً بالسلاح الفلسطيني في المخيمات، الذي طرح في الإعلام، وورد في التصريحات الرسمية، لكنه لم يقارب بجدية على الأرض، مضيفاً “السلاح الفلسطيني يشكل في نظر كثيرين الخطوة التمهيدية لنزع سلاح الحزب، فإذا عجزت الدولة عن جمع السلاح الفلسطيني، كيف ستقارب السلاح الأضخم والأخطر؟”، ويحذر من أن إسرائيل لن تنتظر طويلاً، “اليوم مع طي صفحة الملف النووي الإيراني نسبياً، ستصبح قضية سلاح الحزب الطبق الرئيس على طاولة تل أبيب”.
صعبة هي مهمة تقديم جردة عما يمتلكه الحزب من سلاح، باعتبار أنه منظمة غير رسمية أو تابعة للدولة (ا ف ب)
الأخطر، برأي الأمين، هو ما يتعلق بمخازن السلاح النوعي. فبحسب المعلومات المتقاطعة من مصادر مقربة من الحزب، تنقسم مخازن السلاح إلى قسمين: جزء معروف لدى الإسرائيليين، والجزء الآخر يضم الأسلحة النوعية الثقيلة، وهو حتى الآن خارج كشف الاستخبارات الإسرائيلية. “لكن ماذا لو نجحت إسرائيل في الوصول إلى هذه المخازن؟”، يتساءل الأمين. “عندها سيكون أمام الحزب خياران لا ثالث لهما: إما تسليم السلاح الثقيل للجيش اللبناني، أو أن تدمره إسرائيل. هناك خيار ثالث نظرياً، هو نقل هذا السلاح إلى إيران، لكنه بات اليوم معقداً للغاية بعد الحرب خصوصاً بعد المتغيرات الكبرى في المنطقة وقطع شريان التواصل المباشر على الأرض بين الحزب وطهران”.
ويلفت إلى نقطة أخرى شديدة الحساسية تتعلق بالاختراق الأمني، قائلاً “حتى قيادة الحزب لا تعلم تماماً إلى أي مدى وصلت إسرائيل في اختراقها لجهاز الحزب الأمني والعسكري. كل التقديرات التي كان يضعها الحزب عن مستوى المعرفة الإسرائيلية بتركيبته الداخلية ثبت أنها خطأ. فتل أبيب، خلال 10 أيام فحسب، تمكنت من القضاء على الجزء الأكبر من الهيكلية العسكرية والقيادية للحزب”.
لبنان لا يستطيع الرفض
بدوره أوضح الكاتب السياسي جوني منير، أن الحوار بين “حزب الله” والدولة لم يتوقف، بل هو مستمر عبر قناتين: الأولى من خلال رئيس مجلس النواب نبيه بري، والثانية عبر الرئيس جوزاف عون. لافتاً إلى أن الحزب يرفض الاعتراف بالورقة الأميركية كمرجعية جديدة، ويتمسك بالقرار 1701 واتفاق وقف إطلاق النار.
وأضاف منير “لبنان اليوم أمام خيار صعب، التدخل الأميركي ليس تفصيلاً، إذا لم تنجح هذه المفاوضات، فإن البديل هو ترك إسرائيل تتولى المسألة عسكرياً وهذا يجعل لبنان عملياً غير قادر على الرفض الكامل”.
وكشف عن أن الورقة الأميركية تتيح للبنان فرصة تحقيق بعض المصالح: الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجنوب، بما في ذلك مزارع شبعا، إطلاق الأسرى اللبنانيين، إعادة إعمار البلد، وفتح الباب أمام الاستثمارات الدولية.
الحزب لن يقدم استسلاماً
من جهته، يرى الباحث السياسي رضوان عقيل أن الحزب لم يخسر قوته 100 في المئة، وهو لا يريد تسليم سلاحه من دون ضمانات ويعول على حكمة الرؤساء الثلاثة، في إشارة إلى عون وسلام وبري، لإيجاد مخرج يراعي شروطه الأساسية.” مشيراً إلى أن القيادة في “حزب الله” موحدة ولا وجود لأجنحة متباينة كما يشاع في الإعلام.
العقبة الأساسية، بحسب عقيل، ليست فقط موضوع السلاح، بل الضمانات. فـ”حزب الله” يطالب بتوقف الاغتيالات الإسرائيلية التي تتكرر حتى خلال المفاوضات، ويلفت إلى أن الحزب يسأل نفسه “ماذا لو سلمنا السلاح، ثم انسحبت إسرائيل من بعض النقاط وعادت لتجتاح جنوب لبنان في اليوم التالي؟ من يضمن لنا الأمن؟”.
يقول عقيل “نعم، لبنان يريد الحفاظ على سيادته، ويريد الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة، ويرفض الاعتداءات. لكن البحث في السلاح هو قرار داخلي. المشكلة أن الأميركيين لن يقبلوا بهذا الطرح بسهولة”. ويضيف “القوى اللبنانية ترفض المناوشات الداخلية، لكن إسرائيل تسعى إلى دفع الأمور نحو توتر داخلي إذا لم تحصل على ما تريده. وهنا تكمن الخطورة”.
الخبير في الشأن الإسرائيلي أنطوان شلحت وفي قراءة لما نشر عن تسليم السلاح الثقيل في المرحلة الأولى، قال إن إسرائيل لا تنظر فقط إلى نزع سلاح “حزب الله”، بل تريد إعادة ترتيب المشهد السياسي اللبناني كاملاً. ويوضح أن “تل أبيب لا تريد فقط نزع الصواريخ والمسيرات. حتى الحديث عن قبول الحزب تسليم السلاح الثقيل والإبقاء على الصواريخ القصيرة المدى لا يرضيها، هي تريد نزع السلاح بالكامل”، ويضيف أن إسرائيل تعتمد على “نهج المراقبة والمعاقبة”. هناك وقف لإطلاق النار، لكن الجبهة اللبنانية بالنسبة إلى تل أبيب لا تزال مفتوحة”.