من الدورة الماضية لمهرجان قرطاج (ياسين قايدي/ فرانس برس)

لم تقف المهرجانات الموسيقية السنوية التي تقام منذ عقودٍ طويلة في عدة مدنٍ عربية عند حدود الدول المضيفة لها، وإنما تجاوزتها إلى مدارين: الأقرب هو العربي الجامع (Pan Arab)، حينما بدأت الأنظمة الرسمية، والشعوب، منذ منتصف القرن الماضي، اعتبار الثقافة المحلية جزءاً من مجالٍ ثقافيٍّ عربيٍّ أوسع، كوّنته عناصر أصيلة مثل اللغة والموروث والمعتقد؛ ومدارٌ آخر أبعد، هو العالمي، الذي يحدد مواقع تلك الحواضر والبلدان على الخريطة الثقافية والسياحية الدولية، كلٌّ بحسب تأثيرها المأمول، فضلاً عن عوامل الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي ضمن أراضيها.

اللافت عند تتبّع ما رشح عن التحضيرات لاثنين من أبرز المهرجانات الدولية العربية، جرش في الأردن وقرطاج في تونس، واللذين يتّخذان من موسم الصيف، وتحديداً شهر يوليو/تموز، جدولاً زمنياً ثابتاً لانطلاق فعالياتهما، هو تنامي الاهتمام بالبيئة الحاضنة لتلك الأحداث الفنيّة، وذلك باعتبار المهرجان الموسيقي منصة ترويجيّة لجذب الدعم المالي الوطني والدولي، الحكومي والخاص، ثم استثماره في تحسين أوضاع المجتمعات المحلية، سواء أكان ذلك ثقافياً، بتسليط الضوء على إرثها اللامادي، أم اقتصادياً، بتنشيط الصناعة السياحية واليدوية والتجارة المرتبطة بها، أم اجتماعياً، بتمكين المرأة ورعاية الطفولة والشباب.

لذا، وفي ظل المحنة الاقتصادية التي تمرّ بها عموم المنطقة، في أعقاب الانتفاضات العربية، وباء كوفيد-19 والتضخّم العالمي، ثم سلسلة الحروب الإقليمية المتتالية، يُصبح الهدف الرئيس من دعوة أعلام الغناء العربي والعالمي هو جذبَ الزوّار، سواء، بينيّاً، داخل البلد المُضيف، أو خارجيّاً، من الدول المجاورة والبعيدة؛ وذلك استغلالاً للفرصة، من أجل إنعاش القطاعات الاقتصادية المحليّة، وتحسين البنى التحتيّة والأوضاع الخدميّة، وتسليط الضوء على المشاريع الصُّغرى، كالحرف والفنون اليدويّة.

إدارة مهرجان جرش مثلاً، وبالتعاون مع مؤسسة مكانتي التي تمولها الولايات المتحدة الأميركية، ركّزت خلال دورة هذا العام على المرأة؛ إذ قدّمت الدعم إلى وحدة إنتاجية نسائية بهدف العمل على تلبية احتياجات السوق من المنتوجات السياحية خلال أيام المهرجان.

في المقابل، صبّ مهرجان قرطاج اهتمامه في دورته الحالية (59) على السياحة الثقافية، من خلال التشبيك مع عديدٍ من التظاهرات الأصغر حجماً، مثل معارض فنون تشكيلية، وورش مسرحية لليافعين، وعروض أفلام بالتعاون مع أيام قرطاج السينمائية الذي سيُقام آخر العام. كلها نشاطات تجذب الرعاة الحكوميين والدوليين، ومنهم المنضوون ضمن مجموعة حماة مسرح قرطاج الروماني (Save Carthage)، لكونه مدرجاً على قائمة الإرث الحضاري العالمي لمنظمة يونسكو.

يمثّل هذا التوجّه، المستمر منذ عقودٍ وفي معظم دول العالم، انعكاساً لتبدّلٍ طرأ على أولويات واضعي السياسات الثقافية، جعلها أكثر “منفعيّة”. فقد أخذت أهمية الفعاليات التي تشكّل متون المهرجانات، أي العروض الجماهيرية الكبرى، تنكفئ لحساب هوامشها، وذلك لما للأخيرة من دور في التنمية المستدامة، مقابل الطابع الترفيهي والدعائي قصير الأمد والتأثير لحضور “النجم الكبير”. وعليه، باتت غاية المهرجانات تتجه في العمق نحو الاستثمار في الإنسان والمجتمع والمرافق الخدمية.

مع ذلك، لا تزال إطلالات الفنانين تتصدّر الصفحات الرئيسية في الصحف والمواقع الإخبارية، وتُعدّ حولها التقارير المصوّرة. فمثلًا، وضمن فعاليات الدورة العشرين من مهرجان موازين إيقاعات العالم الذي استضافته الرّباط الشهر الماضي، حظيت مشاركة ماجدة الرومي (68 عاماً) بتغطية مختلف وسائل الإعلام. غنّت الرومي على مسرح محمد الخامس أحدث أعمالها بعنوان “بلا ولا أيّ كلام”، قبل أن تعيد تقديمها خلال مهرجان أعياد بيروت في الأسبوع الأول من هذا الشهر.

والأغنية التي رُفعت منذ ثلاثة أسابيع تقريباً على قناتها على “يوتيوب”، حملت أيضاً توقيعها كاتبةً لكلماتها، أما الألحان فمن وضع يحيى الحسن، الذي سبق له أن لحّن أكثر من أغنية للفنانة في الفترة الأخيرة، مثل “قول يا حبيبي” سنة 2025، التي كتبت بنفسها كلماتها، و”عندما ترجع بيروت” سنة 2023، وهي قصيدة للشاعر نزار قباني (1923 – 1998).

وعلى خلاف الإنتاجين السابقين، تحيد “بلا ولا أي كلام” عن الطابع الشاعري البرجوازي المأورب الذي ميّز أغاني ماجدة الرومي على امتداد مسيرتها الفنية، لكي تميل نحو السائد الاستهلاكي، فتغلب عليها الخفة وتتبع موضة التتريك (التوزيع والعزف الشرقي على الطريقة التركية) علاوة على عجزها عن إخفاء أمارات الترهل على الحنجرة، بفعل التلحين على مستوى صوتي منخفض.

في رمية من شأنها أن تحرز ثلاث نقاط، بوصلها المحلي بالعربي والعالمي، برمجت إدارة مهرجان قرطاج أمسية تضامنية مع فلسطين، تحت عنوان “من أجل غزّة”، دعت إليها الفلسطيني محمد عساف، فيما أعرب كثيرون من المتابعين عن أملهم بأن تُخصَّص عائدات العرض للمساعدة في تخفيف معاناة اللاجئين داخل القطاع.

ففي ضوء التضامن العالمي غير المسبوق، ولا سيما بين الشبيبة التقدمية في مختلف الجامعات الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، لم تعد القضية الفلسطينية مسألة تخص العرب وحدهم، سواء من شعوب البلدان الناطقة بالعربية أو أنظمتها الرسمية، وإنما أصبحت رمزاً بينَ – تقاطعي للنضال ضد مؤسسات جميع السلطة والقوة حول العالم.

أكان ذلك ضمن المدار الفلسطيني المحلي أم العربي، يكتسب محمد عساف (35 عاماً) رمزية خاصة. فضلاً عن جماهيريته العربية كونه أحد وجوه برنامج المواهب (Arab Idol) سنة 2013، كبر وتعلّم في خانيونس جنوبيّ قطاع غزة. اشتهر وهو في سن 11 بأغنية “شدّي حيلك يا بلد”، التي كتبت كلماتها الشاعرة الغزّية كفاح الغُصين، لحّنها غزّي آخر، رملاويّ الأصل، هو جمال النجار، وصدرت على شكل فيديو كليب بعد مُضيّ عام على اندلاع الانتفاضة الثانية سنة 2001. جسّدت كلماتها آنذاك آمال الفلسطينيين في بناء دولتهم المستقلة.