علي عبد الرحمن  

    تحت العنوان المشؤوم «Time to Play One Last Game»، أو «حان وقت اللعبة الأخيرة»، يُفتتح الموسم الثالث والأخير من مسلسل «لعبة الحبار»، ليستأنف السرد من حيث توقّفت الأنفاس في الموسم الثاني، لا مزيد من الأمل الزائف، ولا أحلام النجاة، بل قرار بارد، متعقّل، اتخذه «جي هون» البطل الذي لطالما بدا عالقاً بين الهروب والمواجهة، وحين تراجع عن سفره إلى أميركا، وعاد إلى كوريا ليغوص من جديد في قلب الجحيم، لا كضحية هذه المرة، بل كمحارب يسعى إلى تمزيق القناع عن وجه اللعبة.
    جي هون «لي جونغ جاي» لا يعود الشخص ذاته الذي غادر اللعبة الأولى بحقيبة من المال وخواء داخلي، لقد فقد صديقه المقرّب، «بارك جونغ باي»، خلال محاولتهما كشف هوية صُنّاع اللعبة، وذاقا طَعم الخيانة والموت معاً، وعودته إلى ساحة القتل ليست فقط مدفوعة برغبة الانتقام، بل برغبة غامضة في التكفير، وأن تخسر من تحب بسبب لعبة اخترت ألا تقاومها منذ البداية، هو أمر يحطّم جذور الذات. لهذا، يعود جي هون لا ليكسب، بل لينقضّ على قلب اللعبة، في صراع أصبح فيه الطرفان وجهين لعملة واحدة من صنع اللعبة، ومن قرّر كسرها.
     ومن بين أركان الظلال، يظهر أخيراً «الرجل المقنّع»، الشخصية الغامضة التي طالما رسمت هالات من الرعب والتساؤل، ويكشف الموسم الجديد عن ماضٍ معقّد لهذا القائد، ليتضح أنه لم يكن يوماً مجرد مراقب، بل أحد اللاعبين القدامى الناجين من الجولات الأولى، ممن ارتدوا القناع لا لإخفاء الهوية، بل لحجب الندم والضعف والذكريات.
    وهذه الطبقة الجديدة من السرد الدرامي تكشف عن منطق اللعبة الحقيقي، أنه ليس كل من ينجو يصبح حُراً، وبعضهم يتحوّل إلى جزء من النظام ذاته، الذي كان يوماً يسعى للهروب منه.
    يسلّط الموسم الثالث الضوء على مجموعة جديدة من المتسابقين، لا يختلفون كثيراً عن سابقيهم، لكنهم محمّلون بهموم أكثر توحّشاً، ديون مدمّرة، علاقات عائلية منهارة، وسوق عمل لا يرحم.
     وهكذا تعود ألعاب الطفولة المميتة، لكن بصيغ أكثر تطوراً ودموية، وألغاز نفسية، وتحالفات تتفجّر داخل بعض البعض، وجولات يتخللها الخداع لا القوة فقط.
    ما يميّز هذا الموسم أن كل جولة باتت أشبه بـ«محكمة أخلاقية»، حيث يُوضع اللاعبون أمام خيارات تعكس وجوههم الحقيقية، لا مجرد ردود أفعالهم، ففي إحدى الجولات، يُطلب من اللاعبين التصويت على من يستحق البقاء، من دون أي معيار سوى «الحدس الشخصي». وهنا يتجلّى سؤال المسلسل الجوهري: هل نثق في إنسانيتنا؟ أم أن غريزة البقاء تحرّكنا أكثر من شعورنا، بينما يمضي «جي هون» في مهمّته لتفكيك اللعبة، يكشف المسلسل جانباً متشققاً في شخصية القائد «لي بيونغ هون»، الذي يبدو في هذا الموسم أكثر اضطراباً من ذي قبل، إذ يتضح أن اختراقه للعبة لم يكن انتقاماً فقط، بل بحثاً داخلياً عن ذاته القديمة التي فقدها عندما ارتدى القناع لأول مرة، والصراع بينه وبين «جي هون» لا يعبّر فقط عن ثنائية الضحية والجلّاد، بل عن ثنائية التائه والواعي، ومن أضاع نفسه في سبيل النجاة، ومن قرّر أن يخسر نفسه كي يجد المعنى.

    خدعة بصرية
    تقنياً، لا تزال السلسلة تحافظ على هويتها البصرية المربكة، بألوان طفولية وموسيقى تشويقية تُشبه أغاني الملاهي، ولكن في هذا الموسم، يتمّ تفكيك هذه الجمالية ليُصبح كل عنصر من الإضاءة حتى الأزياء خدعة بصرية تقودك نحو وهم الأمان. لا شيء حقيقي، ولا حتى ذكريات اللاعبين عن طفولتهم، والزمن هنا مسروق، يُعاد تدويره في هيئة «مرح قاتل»، لكن الكاميرا لا ترحم، ترصد كل انكسار، كل تردد، كل دمعة بلا صراخ.
     لا تنتهي «لعبة الحبار» بنهاية بطولية، ولا انقلاب شامل، ولا هروب جماعي، ولا إنقاذ خارجي، النهاية هنا لحظة صمت مطوّلة، كأنها تطلب من المشاهد أن يُكمل القصة وحده. 
    يخرج «جي هون» من ساحة اللعب، لكن بعينين تحملان نظرة من رأى أكثر مما يحتمل، لقد عرف النظام من الداخل، وذاق طعم الخسارة حتى وهو المنتصر، أما اللعبة، فربما لن تنتهي أبداً، لأنها ليست مكاناً.. بل فكرة.

    ثمن النجاة
    في الموسم الثالث، يتحوّل سؤال «من سيبقى؟» إلى سؤال أكثر وجعاً: «هل يستحق البقاء هذا الثمن؟» فالمسلسل في نسخته الأخيرة ليس فقط عن النجاة، بل عن كيف يُفكّك الإنسان ذاته طوبة طوبة ليصمد، كل خطوة، كل قرار، كل خيانة، كانت لبنة في بناء الذات الجديدة، التي قد تبقى، لكنها بالتأكيد لم تعد كما كانت.
    لهذا، حين يُقال «حان وقت اللعبة الأخيرة»، فالمقصود ليس فقط نهاية مسلسل، بل نهاية الإنسان القديم، وبداية إنسان هشٍّ، لا يملك حتى أن يسأل: «من أنا الآن؟».