منذ اللحظات الأولى لتوليه رئاسة الولايات المتحدة في عام 2017، أطلق دونالد ترمب نهجاً غير تقليدي في السياسة الخارجية تمثل في انسحاب بلاده من عدد من المنظمات والاتفاقيات الدولية التي تشكل ركائز النظام العالمي متعدد الأطراف.

برّر ترمب قراراته تلك برغبة في “استعادة السيادة الأميركية” ووقف ما وصفه بـ”استغلال الدول الأخرى للولايات المتحدة”، مستهدفاً منظمات واتفاقات كبرى مثل اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

وبعد عودته إلى البيت الأبيض في يناير 2025، عاد الجدل مجدداً حول مستقبل علاقة واشنطن بالمؤسسات الدولية، وسط مؤشرات مبكرة تشير إلى استمرار توجهه النقدي وربما التصادمي معها، كان آخرها قراره يوم أمس بـالانسحاب من منظمة اليونسكو، وهو ما أظهر سير ترمب على ذات النهج الذي رسمه في ولايته الأولى.

يطرح موقف ترمب من المنظمات الدولية تساؤلات حول تداعيات هذا التوجه على مكانة الولايات المتحدة ودورها في النظام الدولي، وأثر وقف الدعم الأميركي على هذه المنظمات. 

ما هي المنظمات والاتفاقيات الدولية التي انسحب منها ترمب في ولايته الأولى؟

أعلن ترمب في 2017 انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، لكن الانسحاب دخل حيز التنفيذ بعدها بثلاث سنوات بسبب إجراءات معقدة تتضمنها الاتفاقية، قبل أن تعود إدارة بايدن إليها في 2021. وأرجع ترمب قرار الانسحاب إلى أن هذه الاتفاقية مجحفة للاقتصاد الأميركي وتضر بالوظائف في الولايات المتحدة.

 كما انسحب ترمب رسمياً من منظمة الصحة العالمية في عام 2020، وسط جائحة “كوفيد-19″، وأعلن تعليق التمويلات المقدمة لها متهماً المنظمة بأنها منحازة للصين، وفشلت في الاستجابة المبكرة لتفشي الفيروس. لكن فور تولي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة أعاد عضوية البلاد أيضاً للمنظمة في 2021.

انسحب دونالد ترمب كذلك من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يونيو 2018، معللاً قراره بأن المجلس “منحاز سياسياً ضد إسرائيل” و”منافق حيث يضم دولاً تنتهك حقوق الإنسان ضمن عضويته”.

وأعلنت إدارة ترمب قرارها الانسحاب من منظمة اليونسكو في أكتوبر 2017، على أن يسري الانسحاب بدءاً من 31 ديسمبر 2018. وأرجعت الخارجية الأميركية في بيانها أن الانسحاب جاء بسبب “مخاوف الولايات المتحدة إزاء المتأخرات المتزايدة في اليونسكو، والحاجة إلى إصلاح جذري في المنظمة، واستمرار التحيز ضد إسرائيل”.

وقع ترمب كذلك قراراً بالانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ في يناير 2017 ليفي بوعده الذي قطعه على نفسه خلال حملته الانتخابية، معتبراً أن الاتفاقية تضر بالعمال الأميركيين والصناعات المحلية.

وفي عام 2018، أعلن الرئيس ترمب انسحاب الولايات المتحدة من الاتحاد البريدي العالمي (UPU)، وهو منظمة دولية تحدد قواعد وأسعار تسليم البريد الدولي، لكن في عام 2019، تراجعت الولايات المتحدة عن قرار الانسحاب بعد التوصل إلى اتفاق لتعديل قواعد الاتحاد.

انسحبت الولايات المتحدة أيضاً من اتفاقية “الأجواء المفتوحة”، المبرمة مع روسيا و32 دولة أغلبها منضوية في حلف الأطلسي، عام 2020. وعلل ترمب انسحابه بعدم التزام روسيا ببنود المعاهدة. 

ما المنظمات والاتفاقيات الدولية التي انسحب أو هدد ترمب بالانسحاب منها بعد عودته إلى البيت الأبيض؟

في أول أيام ولايته الثانية أصدر ترمب أمراً تنفيذياً بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وأعقب ذلك بتوقيع رسالة رسمية موجهة إلى الأمم المتحدة لإبلاغ الهيئة العالمية بأن بلاده تعتزم الخروج من الاتفاق المبرم في العام 2015 والساعي لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة المسببة لتغيّر المناخ.

وفي اليوم نفسه وقع ترمب أمراً تنفيذياً بالانسحاب مجدداً من منظمة الصحة العالمية، وقال عند التوقيع “منظمة الصحة العالمية خدعتنا، والجميع يخدعون الولايات المتحدة. لن يحدث هذا بعد الآن”.

وفي فبراير الماضي، وقع ترامب أمراً تنفيذياً ينص على وقف مشاركة الولايات المتحدة في مجلس حقوق الإنسان وتجميد أي مساهمات مالية. وفي نفس الأمر التنفيذي، صدرت بنود تطالب بوقف كافة التمويلات المخصصة لـ”أونروا” بعد تقارير أظهرت مزاعم حول علاقة موظفين فيها بحركة حماس خلال هجوم أكتوبر 2023.

وخلال الشهر نفسه، أصدر ترمب أمراً فرض بموجبه عقوبات مالية وقيود على منح التأشيرات بحق موظفي المحكمة الجنائية الدولية، على غرار المدعي العام كريم خان، معتبراً أنها تستهدف حلفاء أميركا.

ليس هذا وحسب، حيث أصدرت إدارة ترمب أمراً تنفيذياً لمراجعة مشاركة الولايات المتحدة في جميع المؤسسات الدولية، بما فيها البنك الدولي وصندوق النقد. ووجه وزير الخزانة سكوت بيسنت انتقادات للصندوق والبنك الدولي بسبب ما اعتبره انحرافاً منهما عن مهامهما الأساسية والتركيز على أمور أخرى مثل القضايا المناخية والاجتماعية، داعياً إلى الإصلاح.

اقرأ أيضاً: صندوق النقد والبنك الدوليان يتقربان من إدارة ترمب مخافة انسحاب أميركي محتمل

ونقلت وكالة “رويترز” عن ثلاثة مصادر تجارية بأن الولايات المتحدة أوقفت، في مارس الماضي، مساهماتها في منظمة التجارة العالمية، في الوقت الذي تُكثف فيه إدارة الرئيس دونالد ترمب جهودها لخفض الإنفاق الحكومي. وسبق لترمب خلال فترة رئاسته الأولى أن هدد بسحب بلاده من المنظمة، مدعياً أنها تعامل بلاده بطريقة غير عادلة.

وفي آخر قرارته، أعلن ترمب، خلال يوليو عزمه على انسحاب الولايات المتحدة مجدداً من الهيئة التابعة للأمم المتحدة المعنية بالتعليم والعلوم والثقافة للمرة الثانية، مشيراً إلى أن أجندتها الأيديولوجية لا تخدم المصالح الوطنية الأميركية.

لماذا يتخذ ترمب هذه المواقف العدائية ضد المنظمات والاتفاقيات الدولية؟

يمكن تلخيص دوافع الرئيس الأميركي وراء مواقفه العنيفة من المنظمات والاتفاقيات الدولية، والتي أدت إلى الانسحاب أو التهديد به في النقاط التالية:

تقليص الإنفاق الخارجي، حيث يروّج ترمب للفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة تُحمّل فوق طاقتها في تمويل المنظمات الدولية، بينما دول أخرى تستفيد دون مقابل. فعلى سبيل المثال قال ترمب في خطابه أمام سفراء مجلس الأمن في أبريل 2017: “الولايات المتحدة، وهي واحدة فقط من 193 دولة في الأمم المتحدة، تدفع 22% من الميزانية ونحو 30% من تكاليف عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وهو أمر غير عادل”.

الاعتراض على التنظيمات والقيود الدولية، فترمب يرى أن بعض الاتفاقيات تقيّد الاقتصاد الأميركي وتضعه في وضع غير عادل، مثل “اتفاق باريس للمناخ” الذي اعتبره يضرّ بالاقتصاد ويقوّض فرص التوظيف في الولايات المتحدة. كما انتقد منظمة التجارة العالمية متهماً إياها بمنح امتيازات لدول مثل الصين على حساب المنتج الأميركي.

رفض “التحامل” ضد الولايات المتحدة أو حلفائها، واتهم ترمب منظمات مثل اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان بتبنّي مواقف “منحازة ضد إسرائيل” أو “عدائية تجاه واشنطن”. كما هاجم المحكمة الجنائية الدولية بسبب محاولات التحقيق مع جنود أميركيين في أفغانستان، معتبراً ذلك مساساً بالسيادة، إضافةً إلى مواقفها من حليفته إسرائيل.

الرغبة في التفاوض على شروط “أفضل”، فترمب لا يرفض فكرة التعاون الدولي، لكنه يصر على “إعادة التفاوض” لجعل الاتفاقات والمنظمات أكثر إنصافاً لولايات المتحدة، من وجهة نظره. فانسحابه من اتفاقيات لا يعني دائماً رفضها الكامل، بل أحياناً ورقة ضغط لتحسين الشروط.

وهناك أيضاً الشعبوية وكسب التأييد الداخلي، فمواقفه المتشددة تلك تلقى رواجاً بين قاعدته الشعبية، خاصة بين الفئات التي ترى في العولمة والاتفاقيات الدولية سبباً في فقدان الوظائف والهوية الوطنية.

ما حجم اعتماد هذه المنظمات والاتفاقيات الدولية على الدعم الأميركي؟ 

تعتمد العديد من المنظمات والاتفاقيات الدولية بشكل كبير على الدعم المالي والسياسي للولايات المتحدة، وهو ما يفسر تأثير الانسحاب الأميركي أو حتى التهديد به على استقرار هذه الهيئات. وتنوع اعتماد المنظمات على الولايات المتحدة، كالآتي:

منظمة الصحة العالمية: الولايات المتحدة كانت أكبر ممول فردي للمنظمة قبل انسحابها، إذ بلغت مساهماتها السنوية نحو 400 إلى 450 مليون دولار، أي حوالي 15% من ميزانية المنظمة.

اتفاقية باريس للمناخ: رغم أن الاتفاق لا يفرض مساهمات إلزامية، إلا أن الولايات المتحدة تعهدت بمبلغ 3 مليارات دولار لصندوق المناخ الأخضر، وسددت نحو مليار دولار فقط قبل أن يوقف ترمب باقي التمويل.

منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو”: قبل الانسحاب من اليونسكو كانت الولايات المتحدة تمثّل إحدى أهم داعميها مالياً، إذ كانت تساهم بنسبة 22% من ميزانية المنظمة، وهو أعلى معدل من بين الدول الأعضاء.

مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة: الولايات المتحدة تساهم بنسبة 22% من ميزانية الأمم المتحدة، وهو التمويل الذي يتضمن دعماً مباشراً لأنشطة مجلس حقوق الإنسان، كما تتحمل الولايات المتحدة نحو 26% من ميزانية بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والتي تغطي أحياناً جوانب مرتبطة بعمل المجلس. 

منظمة التجارة العالمية (WTO): تساهم الولايات المتحدة بما يقارب 11% من ميزانية المنظمة، ولها دور أساسي في بلورة سياساتها بسبب حجم اقتصادها.

ما الآثار المترتبة على انسحاب الولايات المتحددة من المنظمات والاتفاقيات الدولية؟

الانسحاب أو التهديد بالانسحاب من المنظمات والاتفاقيات الدولية من قِبل الولايات المتحدة يؤدي إلى تداعيات سلبية محتملة، يمكن تصنيفها ضمن ثلاثة مستويات: على المنظمة نفسها، وعلى الولايات المتحدة، وعلى النظام الدولي. إليك أبرز هذه الآثار:

على المنظمات والاتفاقيات الدولية: كون الولايات المتحدة هي المساهم الأكبر مالياً في هذه المنظمات والاتفاقيات، فبالتأكيد انسحابها سيخلق فجوة تمويلية كبيرة سيدفعها إلى تأجيل مشاريع وتقليص الخدمات وعدد العاملين، وقد تضطر إلى اللجوء إلى تمويلات طارئة من دول أخرى.

كما أن انسحاب الولايات المتحدة يُضعف مصداقية هذه الهيئات، ويقلل من قدرتها على التنسيق أو فرض المعايير الدولية، ويفسح المجال أمام قوى أخرى لتعزيز نفوذها في تلك المنظمات عبر زيادة مساهماتها المالية، وبالتالي تعديل آليات الحوكمة والمعايير لتتناسب مع مصالحها.

اقرأ أيضاً: أندريا كلوث: ترمب يبدو عازماً على تقويض التعاون الدولي متعدد الأطراف

 على الولايات المتحدة نفسها: خروج الولايات المتحدة من هذه الهيئات يجعل واشنطن خارج دائرة صناعة القرار في مجالات حساسة، مثل الصحة والبيئة والتجارة، ما يحد من قدرتها على التأثير في صياغة القواعد التي تحمي مصالحها ومصالح مواطنيها.

علاوةً على ذلك، يضر الانسحاب أو التهديد به بسمعة الولايات المتحدة الدولية، ويضعف ثقة الحلفاء بها، كما يعزز خطاب القوى المعارضة للنظام الليبرالي العالمي.

ومن تداعيات الانسحاب من المنظمات والاتفاقيات الدولية التي لن تنعكس إيجاباً على الولايات المتحدة، تراجع الفعالية في مواجهة التحديات العالمية
مثل الأوبئة والإرهاب والتغير المناخي؛ وهي قضايا تتطلب تعاوناً دولياً لا يمكن لأي دولة ،حتى أميركا، معالجتها منفردة.

على النظام الدولي ككل: مع انسحاب دولة محورية، تتحول المنظمات من مؤسسات قوية لصياغة القرارات إلى هيئات شكلية، ما يعزز الاتجاه نحو التعددية الدولية، وصعود الصفقات الثنائية بدلاً من الاتفاقيات الدولية. فمثلاً سياسة ترمب المرتكزة على “صفقة مقابل صفقة” ستؤدي إلى تقويض النظام القائم على المؤسسات، وستزيد الغموض وعدم الاستقرار في العلاقات الدولية.

كما أن هذه الانسحابات ستتسبب في تآكل الإجماع العالمي حول القيم العالمية، وستضعف الدفاع عن قضايا دولية، مثل حقوق الإنسان والبيئة والتجارة الحرة، لصالح مصالح قومية ضيقة.