ينتمي مسلسل “كتالوج”، الذي يعرض على منصة نتفليكس حالياً، إلى ما يمكن أن نطلق عليه “مراجعات” Revisions أو إعادة النظر في مفاهيم الذكورة، التي أصبحت محوراً أساسياً للثقافة العالمية منذ عدة عقود، وانتقلت بدورها إلى السينما والدراما العربية تحت تأثير المتغيرات الإجتماعية الهائلة، بجانب التأثيرات الثقافية أيضاً ومنها اتجاهات الأعمال السينمائية والدرامية الحالية في معظم أنحاء العالم.
الدوران في فلك الأب
محور الأحداث هنا هو شخصية يوسف، التي يؤديها محمد فراج، وهو زوج وأب “تقليدي” (يعني: يركز على عمله طوال الوقت على حساب الاهتمام بأسرته، مغلق على نفسه، شحيح التعبير عن مشاعره) ينقلب عالمه رأساً على عقب عندما تموت زوجته التي كانت تعني بكل شئ عقب إصابتها بالسرطان، ويتعين عليه فجأة أن يتغير ويصبح رجلاً جديداً ومختلفاً.
هناك شخصيات أخرى بالطبع، تتراوح في وظيفتها وتأثيرها الدرامي، ولكن كلها تشبه الدائرة التي تتوسطها شخصية يوسف: أول هذه الشخصيات الزوجة أمينة (ريهام عبد الغفور)، وهي نسخة عصرية من شخصية أمينة في ثلاثية نجيب محفوظ.
صحيح أنها أكثر عصرية: مستقلة، قوية، تنتمي لجيل “التنمية البشرية” الحالي، حيث تعمل كمؤثرة على مواقع التواصل ولديها محتوى عنوانه “كتالوج أمينة”، تعطي من خلاله دروساً أو نصائح في التربية والعلاقات الزوجية، وهي أم مثالية (حرفياً، إذ تحصل على لقب الأم المثالية في مدرسة أبنائها بعد موتها!)، وزوجة وحبيبة مثالية، كما تكشف أحداث العمل بمرور الوقت.
هناك أيضاً الأبناء: منصورة (ريتال عبد العزيز) التي تقف بالكاد على عتبة البلوغ، وكريم (علي البيلي) الذي يبلغ التاسعة تقريباً، وبالكاد يبدأ في استيعاب جسامة الأحداث التي أصابت عائلته، وكلاهما كانا مرتبطين بالأم الراحلة تماماً، حتى أن الأب يكاد يبدو غريباً ومجهولاً بالنسبة لهما.
نبؤة الزوجة الميتة
يبدأ المسلسل بمشهد غريب: يوسف وأمينة يذهبان لتفقد مدفن لاتخاذ قرار بشأن شراءه للأسرة، أمينة متشائمة وخائفة بعض الشئ، ولكن يوسف متحمس وأكثر واقعية، في نهاية المشهد ينزل يوسف مع السمسار لتفقد المدفن، وعندما يصعد من جديد، يكون المشهد قد تغير في الزمن فقط، وعندما تتحرك الكاميرا نتبين أنه دفن للتو زوجته ويخرج من القبر شبه محطماً يحيط به الأقارب والمعزون.
تكمن غرابة مشهد شراء المدفن في كونه نبؤة بالحدث الرئيسي، إن حماس يوسف لشراءه يقلق أمينة التي تسأله عما إذا كان بخير، فيجيبها بأنه فقط يريد تأمين مكان للأسرة في حالة حدوث مكروه له (وفاته)، ولكن ما يحدث هو أن الزوجة هي التي تموت.
هناك معان متعددة لقراءة المشهد، من ناحية هو أمثولة مألوفة حول ألاعيب القدر الذي يضرب غير المستعد، ولكن من ناحية ثانية يمكن أن يفهم أنه حلم/ نبؤة ليوسف، وأن كل ما يحدث لاحقاً هو بشكل ما تخيل، أو خوف، أو أمنية في ذهن البطل، أو بشكل أكثر تحديداً، في ذهن مؤلف العمل، أيمن وتار، الذي حلم/ تخيل القصة لكي يعبر من خلالها عن أزمة أو شعور ما ولكي يحقق من خلالها رغبة ما.
هذه الرغبة، في التحليل النهائي للعمل، هي إعادة تأسيس أو تأهيل سلطة الأب الذكر، المستبعد والمهمل داخل الأسرة، بإرادته من ناحية، وبفعل هيمنة حضور وقوة الأم من ناحية ثانية، وهي “ثيمة” طالما ترددت عبر مسلسلات وأفلام كثيرة في السنوات الماضية، أذكر منها على سبيل المثال مسلسل “بابا جه” لأكرم حسني، و”إمبراطورية ميم” لخالد النبوي، وآخر عمل قام ببطولته محمد فراج في رمضان الماضي، وهو “منتهي الصلاحية”، الذي تفشل فيه عملية إعادة التأهيل وتنتهي بانتحار الأب.
ذكورة في أزمة
مع الفارق في القصة والطبقة هناك عوامل مشتركة بين مسلسلي “كتالوج” للمخرج وليد الحلفاوي، و”فات الميعاد” للمخرج سعد هنداوي، الذي بدأ عرضه مؤخراً أيضاً على منصة Watch It وقناة dmc، إذ أن كلاً منهما يعالج “أزمة الذكورة” بطريقة مختلفة.
مسعد (أحمد مجدي) في “فات الميعاد”هو النموذج الفج، الشعبي، غير القابل للاصلاح بسبب عقده الشخصية ومستواه التعليمي المنخفض والبيئة العائلية والثقافية التي يعيش فيها وظروفه الطبقية الصعبة.
لكن يوسف حظه أفضل كثيراً، فمبدئياً هو أكثر تعليماً وتهذيباً وأقل تعقيدا والمحيطون به (وخاصة أخوه وأخو الزوجة الراحلة) هم نماذج طيبة، كما أن الزوجة نفسها ميتة، ما يتيح لمشاعره بالذنب والرغبة في التكفير بالانطلاق دون حواجز.
وبينما يستعرض “فات الميعاد” مجالاً أوسع من العلاقات والشخصيات ويركز على الطبقة الوسطى الدنيا ويدفع بالأحداث والسلوكيات إلى حدود الميلودراما والمبالغة التعبيرية “الشرقية”، يميل “كتالوج” أكثر إلى معالجة “غربية” المزاج، إلى حد ما، تتجنب الحديث المباشر عن الطبقة التي تنتمي لها الشخصيات، وهي طبقة وسطى مرفهة لا يبدو أن الوضع الاقتصادي يؤرقها إلا كإنجاز عملي من خلال الشركة التي يملكها البطل مع صديق، وهي شركة ليس لها تخصص أو انجاز إقتصادي محدد، ولكنها، كعادة الكثير من المسلسلات والأفلام الحديثة التي تتهرب من التفاصيل الإقتصادية، هي مجرد شركة دعاية وإنتاج أفكار للشركات الأخرى، والمرة الوحيدة التي يتفتق ذهن صاحبها عن فكرة تكون عبارة عن خدمة تطبيق يسمح للعملاء بتسجيل مواد مصورة وسمعية يتركونها إرثاً لأحبائهم بعد موتهم، وهي بشكل ما صدى لفكرة المسلسل نفسه، الذي يتمحور حول شعور الرجل بالذنب والرغبة في إعادة التأهل.
“كتالوج” هو تجسيد لمشاعر الذنب التي غالباً ما تصعد إلى العلن بعد فوات الأوان، أي بعد موت الزوجة أو الحبيبة أو الأبناء، الذين عادة ما يقسو عليهم الرجل. ويعزز من هذا الشعور بالذنب تجسيد شخصية أمينة في هيئة ملاك تقريباً، فهي تتحمل كل شئ بما في ذلك إهمال ونسيان ولا مبالاة زوجها، بجانب تحمل المسئولية الكاملة عن الأبناء، ولأنها تصنع محتوى إرشادي، وتترك فيديوهات لأبنائها وزوجها، فهي أيضاً تتولى مسئولية التعبير عن دروس ونصائح التنمية البشرية والنفسية التي يرد المسلسل إيصالها إلينا.
مثالية خادعة
لكن لا يجب أن تغرينا أو تغرنا مثالية أمينة بأن نتصور أن “كتالوج” هو عمل نسوي أو يتغنى بالنساء. المثالية هي أيضاً نوع من الاستبعاد، وعدم الرغبة في التعامل مع الواقع.
يوسف، في النهاية، يفضل أن يبقى وحيداً، ورغم أن العناية الإلهية تمنحه امرأة لا تقل جمالاً أو أنوثة أو حكمة عن زوجته الراحلة، وهي معلمة اللغة العربية هويدا (تارا عماد) لكن يوسف يفضل أن يكون مخلصاً لذكرى الزوجة الراحلة، وأن يتولى رعاية وتربية الأبناء وشئون البيت وحده، ربما فقط بمساعدة المربية أم هاشم (سماح أنور) وهي صدى آخر لنمط المرأة الأم، التي تعشق الأطفال لإن القدر حرمها من الانجاب فتحولت إلى رمز للأمومة!
نموذج آخر مثالي يطرحه المسلسل للمرأة هو شخصية هالة (دنيا سامي) سكرتيرة يوسف المجدة في عملها، المخلصة لمديرها، والتي تنال إعجاب شقيق أمينة أسامة (أحمد عصام السيد)، وهي فتاة طيبة على خلق، تستجيب لمبادرات أسامة بصعوبة، معتزة بنفسها ووطنها ترفض فكرة السفر للعمل والإقامة في الخارج مع أسامة.
في مقابل النماذج المثالية للمرأة كما يراها المسلسل، فهو يطرح، من ناحية ثانية، نماذجا نسائية “أكثر واقعية”، وكوميدية، تتمثل في نساء “جروب الماميز” بالمدرسة المشغولات بالتوافه والنميمة، وكذلك النساء الأجنبيات، اللواتي يظهرن غالباً بالمايوهات، اللواتي يقعن كلهن في حب أسامة.
في مقابل نموذج أمينة، هناك النساء الشهوانيات، اللواتي لا يجدن طبخ الملوخية ولا الطبخ أساساً، كما يوصفن في أحد المشاهد، أي أننا في النهاية نظل أمام نموذجي المرأة التقليديين العذراء والعاهرة، اللذين عاش عليهما الخيال الذكوري البطريركي لقرون.
تتبين معالم هذه النظرة التقليدية أكثر حين نقترب من شخصيات الرجال الآخرين في المسلسل.
هناك شخصية مثالية أخرى تتجسد في “كابتن حنفي”، شقيق يوسف، أنه الأخ الأكبر الذي ضحى بمستقبله كلاعب كرة عالمي في سبيل تربية وتعليم أخيه الأصغر، وهو لم يزل يضحي بكل شئ، ورغم أنه مريض بالسرطان وعلى وشك الموت مثل أمينة إلا أنه يرفض أن يخبر أخيه. وهو عم مثالي كان أقرب لأمينة وأبناء أخيه من يوسف نفسه.
إن النموذج المثالي للذكورة (المقابل لمثالية أمينة) هو حنفي، “الأخ الأكبر”، ذلك النموذج التقليدي المعتاد في الثقافة العربية (وأفلامها ومسلسلاتها).. وهو ما قد يعني هنا أن مشكلة يوسف فردية، ربما تخص طبيعة الأخ الأصغر المدلل، وليست مشكلة ثقافة تربي ذكورها على الأنانية والتوحد والقسوة، وبالتالي فإن مشكلة يوسف ربما تكون أنه ليس رجلاً شرقياً تقليديا مثل أخيه الأكبر.
هذا التشوش حول مفهوم الذكورة يتضح أكثر حين نقترب من شخصية شقيق الزوجة أسامة.
أسرى الشعور بالذنب
أسامة، بشكل ما، هو ترديد آخر لشخصية يوسف، فهو ذكر أناني متعدد العلاقات النسائية، ولكنه يعاني من عدم قدرته على التعامل مع الحزن على الموتى.
وفيما يروح يوسف يدلي باعترافه بالذنب تجاه زوجته الراحلة للمحيطين به، خاصة المعلمة هالة وأحياناً للمربية أم هاشم، وحينا للأخ والجار الانعزالي جورج (بيومي فؤاد) الذي يتبين لاحقاً أنه نسخة أولية بدئية من يوسف، إذ اعتزل الحياة والناس حزناً على الأموات وشعوراً بالذنب أيضاً!
فيما يدلي يوسف باعترافاته للداني والقاصي، فإن أسامة يذهب إلى جلسات للعلاج والتأهيل النفسي لكي يتجاوز حزنه وعدم قدرته على التعبير عن مشاعره، إنه أكثر رقة و”أنثوية” من يوسف، قد يبدو أكثر تحضراً وعصرية، ولكنه أيضاً زئر نساء متعدد العلاقات، يعاني أيضاً من “الإفراط” في اثبات فحولته، ومن عدم القدرة على الاستقرار النفسي.
في إثنتين من الجلسات التي يحضرها أسامة تظهر شخصيتان من الراغبين في التعافي. في المشهد الأول الذي يأتي في حلقة متقدمة من العمل تظهر حنان مطاوع في شخصية شابة تتذكر أمها الراحلة وتندم على أنها لم تعبر عن مدى حبها لها في حياتها (فكرة المسلسل).
وفي مشهد بالحلقة الثامنة والأخيرة يظهر محمد محمود عبد العزيز لينعي والده الفنان الراحل (!) وهو مشهد شديد الغرابة والنشوز داخل العمل لعدة أسباب: منها أن محمود عبد العزيز رحل منذ عشر سنوات تقريباً، ولا يعقل أن محمد يذهب لجلسات للتعافي من موت والده إلى الآن.
ولذلك يبدو المشهد مفتعلاً، كما يمكن فهم ظهور محمد باعتباره بيان وتعليق آخر على الأزمة التي نشبت بين ابني الفنان الراحل وزوجته بوسي شلبي.
وهو تدخل في القضية غير محمود من قبل صناع العمل، وفوق ذلك يبرز النشاز أكثر مع المونولوج “المرتجل” المفتعل الذي ينعي به محمد والده، وهو في مضمونه رثاء رجل تقليدي شرقي يتمنى أن يكون جديراً باسم أبيه الرجل المثالي، وكلماته لا تحمل ذلك الشعور بالذنب والرغبة في اعادة التأهل كرجل التي يحملها يوسف والمسلسل.
رحلة صعود الأب
في النهاية ورغم كل الرثاء الذي يحمله يوسف والمسلسل لأمينة والندم على الاهمال والقسوة وشح التعبير عن المشاعر، إلا أن المسلسل ينتهي بصعود الأب وتصدره للصورة: لقد نجح يوسف في أن يكون أباً وأماً لأبناءه، وناجحاً في البيت والعمل معاً.
وهو يرفض حتى الاقتران بهويدا التي تحبه بتفانٍ من أجل أبناءه واخلاصا لذكرى زوجته، وهويدا التي تنهي رواية أبيها الراحل وتعدها للنشر تهديها “إلى أبي الذي علمني معنى الإصرار، ويوسف الذي علمني معنى الاخلاص”. إنها ليست فقط راضية بأنه تركها، ولكنها سعيدة بذلك أيضا لأنها تعتبر اخلاصه لذكرى الزوجة الميتة أهم.
المشكلة هنا ليست فحسب ضعف شخصية هويدا كتابةً وتمثيلاً، بأداء تارا عماد التائه الباهت (وهو ما ينطبق أيضاً على شخصية هالة وأداء دنيا سامي لها)، المشكلة أن هذا هو نموذج المرأة المثالية الذي يسوقه المسلسل: إما ميتة وإما باهتة وضعيفة.
ما يبدو على السطح أنه مراجعة لمفهوم الرجولة يتضح في نهاية اليوم أنه إعادة تأسيس لسلطة وهيمنة الأب وتمجيد الذكورة.
تمتد هذه التصدعات الدرامية إلى المستوى الفني للعمل، رغم الإمكانيات التي يتمتع بها المخرج وليد الحلفاوي، خاصة في نوع الكوميديا العائلية (كما ظهر في فيلم “وش في وش” وأعمال أخرى)، إلا أن تشتت العمل هنا بين الكوميديا والجدية والحزن العميق ودروس التنمية البشرية السطحية، وبين الشخصيات الأصلية والشخصيات النمطية المنتحلة، والاعتماد الكامل على الحوار والتكرار والدوران في المكان الواحد أحياناً، تجعل العمل، برغم حلقاته التي لا تتجاوز الثمانية، يبدو مترهلاً وبطيئاً ومفتقداً للحيوية أحياناً.
ومن الطريف أن أكثر شخصيتين تبثان الحياة والواقعية في العمل هما سماح أنور وخالد كمال، بجانب بعض ضيوف الشرف الذين يظهرون في مشهد واحد مثل حنان مطاوع ومحمد شاهين وأمينة خليل وطه دسوقي.
وفيما يبدو أحمد عصام السيد تائهاً في شخصيته، يؤدي صدقي صخر شخصية الصديق الغادر بشكل جيد يؤهله بجدارة للعب شخصية الشرير متعدد الوجوه، أما بيومي فؤاد فقادر دوماً على بث الروح في أي شخصية يلعبها حتى لو كانت معظم مشاهده من وراء باب مغلق لا يظهر منه سوى جزء من وجهه!
محمد فراج، كما ذكرت تعليقاً على أداءه في عمل آخر، لم يزل يحتاج إلى تدريب خاص لضبط لغة جسده المنفعل طوال الوقت حتى في مواقف تحتاج إلى الاقتصاد في التعبير أو الصمت والسكون تماماً.
الطفلان ريتال وعلي البيلي يثبتان موهبتيهما من جديد، فيما لا تحتاج ريهام عبد الغفور إلى مزيد من الإشادة، إنها تتعامل مع كل موقف بما يستحق من جهد وتعبير مناسب، والأمر يتوقف عادة على نوعية المواقف والحوار المكتوب.
بشكل عام فإن “كتالوج” محاولة طيبة لمعالجة موضوع يمس حياة الملايين من المشاهدين، مؤثر ويلمس جروحاً مفتوحة أحياناً، ولكن هذا التأثير، مثل نصائح مؤثري الانترنت، يتوقف عند حدود لا تسعفهم إمكانياتهم الثقافية وخبراتهم الحياتية بتجاوزها.
* ناقد فني