مع تجاوز منتصف العقد الأول من عمر مهرجان عمان الدولي (أول فيلم) المعني بالتجارب الأولى لصناع الأفلام، شهدت الدورة السادسة من المهرجان التي اختتمت مؤخراً، منافسة 7 أفلام وثائقية ضمن مسابقة الفيلم الوثائقي الطويل، والتي تبارى فيها على جائزة السوسنة السوداء لأفضل فيلم 6 مخرجين في أعمالهم الأولى.

    من المغرب “أمك. أمي”، ولبنان “نحن في الداخل” و”فتنة الحاجبين”، والأردن “احكي لهم عنا” و”أم المدارس”، وسوريا “وقت مستقطع 22″، بالإضافة إلى مصر التي شاركت بفيلم المخرج بسام مرتضى “أبو زعبل 89″، وهو عمله الثاني، لكنه انضم إلى المسابقة في تنافس على جائزة أفضل مونتاج أول، والتي حصل عليها المونتير المصري أحمد أبو الفضل.

    من بين الأفلام السبعة المشاركة استطاع المغربي “أمك. أمي” للمخرجة سميرة الموزغيباتي، والأردني احكي لهم عنا لرند بيروتي، واللبناني نحن في الداخل لفرح القاسم أن يحصدوا جوائز المسابقة هذا العام (أفضل فيلم مناصفة بين المغربي واللبناني) وجائزتي لجنة التحكيم والجمهور للفيلم الأردني، بينما حصل “أبو زعبل 89” على جائزة اتحاد النقاد الدولي، وهي المرة الثانية التي يحصل عليها، بعد أن حصدها في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عقب عرضه الأول في الشرق الأوسط.

    وكما هو ظاهر، فالحضور النسائي يرفرف على جوائز المسابقة هذا العام، أربع جوائز لثلاثة أفلام من أصل خمس جوائز يمنحها المهرجان سنوياً، مع الأخذ في الاعتبار أن جائزة السوسنة ذهبت مناصفة في هذه الدورة لفيلمين، وكلاهما من إخراج صانعات أفلام.

    الكاميرا وبريق الأمهات

    تبدو الأمهات عنصراً مشتركاً وحاضراً في تجليات متعددة ضمن الأفلام الفائزة بالمسابقة هذا العام، في الفيلم المغربي “أمك. أمي” يبدو العنوان صريحاً بلا مواربة أو حاجة للتأويل، هذا فيلم يتحدث عن العلاقة مع الجذور عبر شخصية الأم – أم المخرجة – التي بسبب مأساة عائلية تنفصل شعورياً ووجدانياً عن بناتها – أخوات المخرجة – وتقرر سميرة عبر وسيط الصورة أن تعيد إنتاج رحلة العائلة وصولاً إلى لحظة الأزمة ثم تفجرها بمواجهة الأم مع البنات، حيث توقفت الأخوات عن مناداة أمهن بلقبها المعتاد – الوالدة – وأصبحت فقط تخص سميرة – والدتك – ومن هنا يأتي العنوان على لسان سميرة (أمك. أمي) موجهة خطابها إلى أخواتها؛ أي أن أمهن واحدة!

    وفي المقابل، تلعب فرح القاسم في فيلمها “نحن في الداخل” دور الأم البديلة للأب الشاعر الطرابلسي العجوز بعد عودتها عبر سنوات الغياب والمنفى الاختياري، هكذا نراها وهي تحلق له رأسه وتعاونه في إدارة نشاط نادي الشعر الخاص به، تطمئنه أمومياً تجاهها، مما يجعله يستريح من قلقه الشعري الغريزي ويفتح لها خزائن ذاكرته ودفاتر أيامه حكياً وشعراً ونثراً أمام الكاميرا.

    أما رند بيروتي في فيلمها “احكي لهم عنا”، فأول ما تفعله مع مجموعة الفتيات التي قررت أن يكونن محط المعايشة والدراسة الوثائقية لحياتهن، من بين آلاف الفتيات الهاربات اللائي يعشن في المنفى الإجباري، بعد أن تركن بلادهن العربية الممزقة، نقول أول ما تفعله هو أن تتفق معهن على إعادة إنتاج مشاهد علاقتهن مع أمهاتهن، وكيف تنظر الأمهات من جيل ما قبل الهجرة واللجوء إلى واقع بناتهن، وسط خضم الغربة الجغرافية والاغتراب المكاني والنفسي عن الأصول والجذور الأولى، سواء كانت اجتماعية أو عاطفية أو حتى متخيلة.

    ولا ننسى، وسط قراءتنا للأفلام الثلاثة، أن نشير إلى البريق الساطع لحضور الأم في فيلم “أبو زعبل 89″، حيث تلعب أم المخرج بسام مرتضى دوراً محورياً هائل التأثير والأثر سواء على أسلوب حكي القصة أو إعادة بناء لحظات الماضي التي انطلق منها المخرج في محاكمته لأبيه – المناضل اليساري المحبوس في سجن أبو زعبل عام 89 إثر حركة عمالية غاضبة تجاه السلطة الرأسمالية الغاشمة – وكيف أن لحظة زيارة الأب مع الأم في ذلك العام البعيد شكّلت تحولًا يصعب احتواؤه على نفسية وعقل وشخصية المخرج نفسه، هذا التحول الذي ظلت الأم جزءاً لا يمكن طمسه أو المرور عليه، دون أن يكون لشهادتها وحكيها كل هذا الثقل الشعوري والدرامي في الفيلم.

    تلمع الأفلام الأربعة الفائزة ببريق الأمهات على اختلاف درجات الحضور والتوظيف والتأويل، والملاحظ في الأفلام الأربعة أن وسيلة الحصول على التواصل أو الاتصال المباشر أو غير المباشر أو استدعاء الماضي أو الولوج إلى أعمق الأقبية الداخلية في نفوس الشخصيات يأتي عبر الكاميرا أو صناعة الفيلم نفسه! 

    وأن البريق الذي يشع من كيان الأم في كل تجلياته – حتى وهي غائبة أو ممثلة كما في الفيلم الأردني أو مجازية كما في الفيلم اللبناني الذي تقوم فيه المخرجة نفسها بدور الأم لأبيها – هذا البريق تلتقطه الكاميرا ضمن عملية المكاشفة عبر السينما، فالأفلام الأربعة تقريباً يستخدم صناعها السينما كأكثر من مجرد عملية إبداعية أو أداة تعبير أو توثيق، بل يتجاوز الأمر في أفلام مثل “أمك. أمي” و”أبو زعبل 89″ ونحن في الداخل إلى مواجهة الذات ومحاولات الاستشفاء أو إصلاح ما أفسدته أزمنة سابقة متراكمة وثقيلة، أو تحقيق الأحلام المستحيلة واستشراف المستقبل كما في احكي لهم عنا.

    الأرشيف واللغة المحكية

    لا يمكن غض الطرف عن توظيف اللغة المحكية والأرشيف في الأفلام الفائزة بالمسابقة، وإن اختلفت أشكال الأرشيف واختلفت تجليات اللغة.
    في “أمك. أمي” ثمة اعتماد كبير على الأرشيف العائلي المصوّر لأسرة المخرجة، مادة هائلة يصعب تصور كيف استطاعت أن تسيطر عليها مونتاجياً وتعيد إنتاجها دون رطانة أو إسهاب أو وقوع في فخ النوستالجيا، عشرات الدقائق من حفلات أعياد الميلاد والزفاف والتجمعات العائلية التي شكّلت جزءاً مهماً من سؤال الماضي الذي يتم محاكمة الأم من خلاله! الفيلم بالأساس يبدأ بمشهد أرشيفي، وتختلط فيه الأزمنة بصورة تتلاشى معها الحدود ما بين السابق والحاضر، وهو تلاشٍ متعمد لعجن الزمن ككل في كتلة واحدة ثقيلة تُشعر المتفرج بحجم وطأة الأزمة التي تعيشها عائلة المخرجة والمحاولات المضنية عبر صناعة الفيلم في منح الأم فرصة للدفاع عن نفسها ومصالحة بناتها في الماضي قبل المستقبل.

    ولا يمكن أيضاً تجاهل عنصر لغة الحوار بين الشخصيات في الفيلم والتي تغلب عليها الفرنسية بشكل كبير نظراً لكون العائلة تعيش بين هويتين، المغربية – بحكم الأصول – والفرانكفونية – بحكم ميراث الاستعمار والجغرافيا والثقافة – اللغة هنا هي عنصر مهم من عناصر تشريح الأسرة المغربية الذي تجريه المخرجة، وليس المقصود بها أداة ولكن جزء، أي أنها مثل الأرشيف المصوّر، من الصعب أن تكتمل رؤية الفيلم دون النظر إلى اللغة الفرنسية على اعتبار أنها جزء من تكوين العائلة وأزمتها الثقافية والاجتماعية.

    وفي “احكي لهم عنا” تبدو اللغة ليس فقط جزءاً من حاضر الشخصيات – زهرات المنفى من الفتيات العربيات المراهقات اللائي يعشن مع أسرهن اللاجئة إلى ألمانيا – حيث يتوجب عليهن أن يدرسنها ليس فقط من أجل أن يدرسن بها، ولكن كجزء من برنامج اللجوء للانخراط في المجتمع من ناحية وكوسيلة دعم ومواجهة لكونهن غريبات على مجتمع يقبلهن على مضض.

    تتنوّع استخدامات اللغة في الفيلم ما بين العربية والألمانية، تعتمد المخرجة الشابة على نوع مختلف من الأرشيف، حيث لا تستعين بصور أو مواد مصورة للشخصيات – والتي غالباً لا يتوفر لديهن هذا النوع من الأرشيفات كونهن لاجئات جاءت أسرهن ربما بما عليهن من ملابس – حيث تصنع لهن المخرجة أولاً أرشيفاً من حاضرهن المعاش نراه في البداية كجزء من التعريف بهن شكلياً وعمرياً واجتماعياً على الأقل.

    ثم عبر إعادة تمثيل بعض المواقف التي سبق وأن حدثت لهن – مع أمهاتهن مثلاً أو مع فتيات ألمانيات ممن يتسمن بالعنصرية ضدهن – تتنوع اللغة هنا بين العربية والألمانية، صحيح أن العربية تغلب – بشكل متعمد كجزء أساسي في وصف هويتهن الأصلية وأرشيفهن النفسي والثقافي – إلا أن حضور الألمانية أيضاً يعزز من الحاضر الذي يعشنه، ويمتد عبر أسلوب وثائقية المعايشة – أي تتبعهن على مدار سنوات بالتعايش معهن ورصد تطورات حياتهن – إلى الوقوف على شكل مستقبلهن القريب وعن بوابات الحياة العملية والمهنية اللاتي شرعن في المرور عبرها.

    تبدو إعادة بناء المواقف تمثيلياً من قبل البنات لعبة أرشيف ذكية من المخرجة، وربما تفسر سر حصول الفيلم على جائزة الجمهور، حيث إن الفتيات يتسمن بقدر كبير من الحيوية والمواهب الدفينة والتصالح مع الحياة والقوة النفسية في مواجهة ماضٍ مؤلم وحاضر هش – يتحرك بين قوسي العنصرية والخوف من الترحيل كما نرى في مشاهد تعرض بعضهن للتنمر بسبب الحجاب واللغة العربية – وبالطبع مستقبل مجهول – بحكم كونهن لاجئات من أسر لاجئة.

    تستغل المخرجة لعبة ورش التدريب على الرسم أو الغناء أو التمثيل للقفز فوق الشكل التقليدي للأسئلة والبوح، حيث تعمل الورش على استخراج ما بداخلهن بصورة سلسة وغير تقليدية، بل تستثمر رند فكرة الورش من أجل تحقيق أحلام البنات – التي تبدو ظاهرياً مستحيلة – في مغامرة سينمائية تستحق الإشادة، كونها استغلت إمكانيات الفيلم في تجسيد الأحلام – والسينما بالمناسبة هي أقرب الفنون تعبيرية في القدرة على أن تجعل كل منها يرى أحلام الآخر – حيث تقوم المخرجة مع البنات بكتابة وتمثيل وتصوير – وتحقيق – حلم كل فتاة منهن أن تكون الإنسانة التي تريدها، سواء مهنياً أو اجتماعياً، حيث تحقق على سبيل المثال حلم واحدة منهن بأن تكون شرطية – في بلد بيروقراطي يشترط الجنسية للالتحاق بسلك الشرطة – وهكذا.

    ربما أيضاً كان أكثر ما أهل “احكي لهم عنا” لجائزة مهمة مثل جائزة الجمهور هو تجنب التعاطف المجاني مع واقع البنات، ولجوء المخرجة إلى تصويرهن في لحظات تحقق وقوة، مع الأخذ في الاعتبار رقة اللحظات اللائي يضعفن نسبيًا فيها، كي لا تُبتذل مثل هذه الأوقات لصالح ميلودراما يمكن أن تتبخر سريعاً، وهي حساسية سينمائية تُحسب لها في تجربتها الأولى الجذابة، بالإضافة إلى ذكائها في التعامل مع قضايا حساسة مثل العنصرية – والتي تأتي بشكل ديناميكي كجزء من سياقات المجتمع الألماني وليس بالتركيز عليها على اعتبار أنها جزء من أجندة مضمونة لدعم سمعة الأفلام التي تتحدث عن اللاجئين من أجل استدرار الدموع أو ابتزاز دول المهجر.

    يمكن اعتبار قائمة جوائز مسابقة الأفلام الطويلة بالمهرجان هذا العام مساحة مشبعة بالتكريم المستحق لمجموعة من الأعمال الأولى التي بلا شك سوف تظل عالقة في ذاكرة جمهور المهرجان، وعلامة مميزة لدورة منتصف العقد الأول من عمره الشاب.

    * ناقد فني