بدون زياد الرحباني الشاعر والموسيقي والفيلسوف، ما كان لمشروع السيدة فيروز الطويل أن يكتمل فنيًا.. ما كان له أن يتصل بالعادي والسياسي واليومي والواقعي في حياة العرب واللبنانيين بعد المنعطفات التراجيدية التي مرّت بها المنطقة العربية.


    في جنازة الرحباني الأخير، بدت السيدة فيروز، صاحبة التسعين عامًا، لوسائل الإعلام العربية واللبنانية كأسطورة إغريقية.. فلم تشأ ربة الغناء العربي أن تتجنب الوقوف في تلك اللحظة الرهيبة أمام تحديق الكاميرات ورذاذ الفلاشات وعيون الفضوليين، دون أن تتخلى عن ثباتها المعهود في أحلك الظروف قساوةً وقتامةً.


    لم تكن السيدة فيروز، التي وقفت صامتة طوال الوقت، غارقة في أحزانها وراء نظارتها السوداء، تودّع ابنًا فحسب.. بل كانت تودّع صاحبًا وموسيقيًا وسياسيًا وفيلسوفًا ورفيق مشوار فني طويل كاد أن يتعثر في منتصف طريقه بموت عاصي الرحباني عام 86.


    لولا زياد الرحباني، من تلك اللحظة البعيدة – أي عام 86 – ما كان لصوت فيروز أن يصل إلى قطاعات واسعة من الغاضبين المجهولين المنسيين في بقاع الدنيا القاسية.. ما كنا لنسمع شيئًا عن ضيعة “حملايا” المنسية في لبنان، حتى عند السكان المحليين.. لولاه.. لولا شعره وموسيقاه، لما خُلد اسم القرية وجاء ذِكرها في ويكيبيديا بسطر واحد خالد يقول:

    “حملايا ضيعة لبنانية ذكرتها السيدة فيروز في أغنيتها البوسطة:

    “على هدير البوسطة الـ كانت ناقلتنا/ من ضيعة حملايا ع ضيعة تنورين”.


    لولا زياد الرحباني، لما كنا تعرفنا على أشهر عتابين في تاريخ الغناء العربي الحديث. الأول الذي دار بين السيدة فيروز وبينه عندما التقته مصادفةً بعد عودته من إحدى سفرياته الطارئة، فسألته عن أحواله وأخباره قائلة: “بيقولوا إنو صار عندك ولاد”.. فتحولت الكلمات إلى واحدة من أشهر الأغنيات العربية في القرن الحديث تحت اسم: “كيفك إنت؟”


    والثاني هو العتاب الناعم الرقيق بين سيدة مجهولة وشخص آخر، ربما – قَسْهَا – تلومه فيه بأن حياتها لم تتحسن ولم يطرأ فيها جديد كما وعدها، إذ تقول الكلمات:

    “بتذكُر شو كنت تقلّي .. مهما يصيرْ/

    انتظريني وضَلِّك صَلّي .. الله كبير/

    ومن يَوما شو عاد صارْ/

    عَ مَدى كَذا نْهارْ/

    ما صار شِي كتيرْ/

    كلّ اللي صار وبَعْدو بيصِيرْ/

    الله كبيرْ”


    لو زياد ما كان، للقنوط والعدم أن يدخلا إلى الغناء العربي بهذا الشكل الحميمي الرقيق، الذي لا يكدر صفو مستمعه بقدر ما يقلب في وجدانه الشعور بالشجن دون أن يتأسف على مضى..

    “في ماضي منيح بس مضى/

    صفى بالريح بالفضي/

    وبيضل تذكار على المشهد صار/

    في خبز، في ملح، في رضا”.


    لو زياد الرحباني، لما عرفنا أن الانتظار في الحب يمكن أن يكون سرمديًا وأبديًا:

    “نطرونا كتير على موقف دراينا..

    لا عرفنا أساميهم ولا عرفوا أسمينا..”


    لو لم يوجد زياد الرحباني، لَخَسِرنا حتمًا جزءًا كبيرًا من وجودنا العربي.