فُجع لبنان مطلع الأسبوع الماضي برحيل الفنان الكبير والمناضل الوطني زياد الرحباني، وقد شكلت وفاته المفاجئة صدمة عارمة لدى كل محبيه في الأوساط الفنية والثقافية والشعبية من مختلف الفئات والطوائف والتيارات.

وإذ مثّلت تجربة الشقيقين عاصي ومنصور الرحباني في الإبداع والعبقرية الموسيقيتين حالة عائلية نموذجية فريدة من نوعها في العالم العربي، فإن زواج عاصي من نهاد حداد التي عُرفت بعدئذ بـ “فيروز” وهو الاسم الذي أطلقه عليها الموسيقار حليم الرومي، قد أثمر عن ولادة ابنهما البكر الفنان الكبير الراحل زياد الذي أثبت أنه لا يقل عن والده عاصي وعمه منصور عبقرية وإبداعًا في الفن الموسيقي، لا بل أضاف إلى تجربتهما الكثير من التجديد، ناهيك عن إبداعه في العمل المسرحي تأليفًا وإخراجًا وتمثيلًا. وإذا كانت لنشأته – كما يعترف – في بيت موسيقي حيث كان والده مؤلفًا وملحنًا موسيقيًّا وشاعرًا غنائيًّا ووالدته مطربة، تأثيرًا على نشأته الفنية الموسيقية فإن انجذابه للفن الموسيقي جاء بمحض إرادته وميوله الطبيعية وشغفه بهذا الفن، ولم يجبره والده على هذا الخيار، وذلك كما صرح في حوار طويل أجراه معه الناقد الفني الكبير نزار مروة (نجل المفكر التراثي والأدبي الراحل حسين مروة).

على أن الوالد ترك له حرية التجديد مع الحرص على بلورة الهوية الشرقية وتحذيره من الانغماس في الموسيقى الغربية أو تجريب الخلط بينها وبين الموسيقى الشرقية، آملًا أن يكون المكمل لتجربتهما. ولا ينسى الفقيد الراحل أن يشيد في ذلك الحوار بدور الفنانة والدته فيروز منوهًا بحسها الموسيقي الذي تملكه، والذي يتجلى أثناء التدريب معها على أغنية ما فتختار صيغة واحدة تناسبها، ويتبين لاحقاً هي بالفعل الصيغة المناسبة، وبهذا كانت لها سلطة التعديل في اللحن، ودائماً ما يكون التعديل مفيداً وسليماً، بما يتناسب مع إبداعها في نطق مخارج الحروف، وهو أمر مهم في إنجاح العمل الفني، وهذه السلطة في التعديل لا تملكها إلا فنانة كبيرة موهوبة بحجم فيروز، وقد وجدنا مثل تلك السلطة في التعديل لدى الفنانة المصرية الكبيرة أم كلثوم.

وإذا كان الشقيقان الرحباني قد منحا القضية الفلسطينية أعذب وأصدق الأغاني تأليفاً وتلحيناً والتي غنتها فيروز ولامست شغاف قلوب الفلسطينيين خصوصاً والعرب عامة، فإن ابنها زياد تماهى مع هذه القضية إلى درجة إعرابه عن الرغبة في الانخراط في المقاومة، وهو في حوار له مع الإعلامية المصرية منى الشاذلي كشف بكل فخر عن أُصوله الفلسطينية. كما تأثر إنسانياً لغياب العدالة والمساواة في مجتمعه ما دفعه للانتقال إلى صفوف اليسار. ورغم ما تردد حول مسألة إلحاده ومدى إيمانه، خصوصا إثر أغنيته الشهيرة “أنا مش كافر بس الجوع كافر”، رغم أن هذا الوصف منسوب في الأصل لمقولة مأثورة للإمام علي، فإن الأب جوزيف سويد، الوكيل البطريركي للكنيسة المارونية في الأردن، يكشف سراً بُعيد رحيله وهو أن زياد رحل وقد خلّف للكنيسة أفضل التراتيل والترانيم التي ألفها ولحنها، وأخذت بلب المؤمنين، والتي لا يمكن أن تصدر إلا من قلب إنسان مؤمن، وظل المؤمنون يرددونها سنوات طوال دون أن يعرفوا أنها من تأليف وتلحين الفقيد الراحل.

وإذ تردد غير مرة على ألسنة مسؤولين في حزب الله، خصوصًا غداة رحيله حيث شارك هذا الحزب في مراسم واحتفالات تشييعه، بأنه اجتمع مع زعيم الحزب الراحل السيد حسن نصرالله، فإنه نفى في حوار أجرته معه الإعلامية رابعة الزيات في “تلفزيون الجديد” صحة هذا الخبر. صحيح أنه كان مسكونًا بالمقاومة ضد الاحتلال تحت أية راية حزبية، لكن في حوار أُجري مع جوزيف عيساوي غداة رحيله والذي يبدو مطلعا جيدا على سيرة الفقيد، فإن زياد إذ لا ينفي إعجابه بشخصية السيد حسن نصرالله، إلا أنه تساءل في المقابل: لماذا لا يعترف السيد في خطاب له بالحزب الشيوعي كحليف له سيما أن الحزب صاحب مشروع اجتماعي في الجنوب؟ كما حرص زياد على التذكير بمسؤولية حزب الله عن الاغتيالات التي طالت اثنين من أبرز مفكري اليسار في أواخر الثمانينيات (إشارة إلى الراحلين حسين مروة ومهدي عامل).

وإذ توحد لبنان بمختلف طوائفه وأحزابه في تشييع الفقيد الراحل زياد، فإن رحيله يظل خسارة كبرى لا تعوض للساحتين الفنية والثقافية والنضالية، ولا نحسب من قبيل المبالغة إذا ما أطلقنا عليه “الضلع الثالث” في أسطورة وعبقرية فن الرحابنة.

كاتب بحريني