علي عبد الرحمن
في اللحظة التي يُصبح فيها هدير المحرّك بديلاً عن نبض القلب، لا تعود الحلبة مجرّد مسار دائري، بل تتحوّل إلى مسرحٍ وجودي يُراهن فيه الإنسان على خلاصه الشخصي.
والسباق في فيلم «F1: The Movie» ليس مجرّد رياضة مدفوعة بالأدرينالين، بل هو طقس عبورٍ داخلي، وسردية إنسانية تنبش أسئلة عميقة حول الجسد، الزمن، الصدمة، والمجد كمأزق أخلاقي. لا شيء في هذا الفيلم يُحاكي النموذج الرياضي التقليدي، ما يُروى هنا ليس مجرّد سيرة بطل، بل محاولة لكشف ما يتكسّر في الداخل مع كل لفة عجلة، إنها سيرة شخص، لكنها في جوهرها، أيضاً، مرآة لزمنٍ يبحث عن ذاته في مرايا تتناثر شظاياها بين التصفيق والصمت، بين لحظة التتويج وسؤال: ماذا بعد؟.
تبدأ الحكاية مع «جاك لارسن»، أسطورة رياضة سباق السيارات، رجل في نهاية الأربعين لم يعد يركض خلف الفوز فقط، بل وراء خيطٍ رفيع من المعنى كاد يتفلت منه على طول الطريق، ومنذ اللحظة الأولى، يدرك المشاهد أن ما أمامه ليس قصة صعود، بل سردية انحدار ناعم، انحدار لا يُقاس بعدد الانتصارات، بل بتلك التجاعيد الدقيقة التي ترسمها الذاكرة على وجه «جاك» حين يجلس صامتاً في مؤتمرات ما بعد السباق، غير مكترث بالتصفيق، ولا بالمراسلين الذين يلهثون خلف انتصار رقمي جديد.
«جاك» ليس بطلاً تقليدياً، بل رجلٌ تشكّلت حياته حول لحظة واحدة حين رأى والده ينهار على الحلبة، وظلّ ذلك المشهد يتردّد داخله كصدى لا ينطفئ، ومنذ تلك اللحظة لم يتوقف عن الجري، لا هرباً من الألم، بل بحثاً عن طريقة لتجاوزه عبر تكراره، وكأن السباق تحوّل إلى طقسٍ دائم للإنكار، وإلى حيلة نفسية للهروب من حداد لم يُنجَز، ومن صدمة لم تُعالج. وهكذا، كلما انعطفت السيارة حول زاوية، كانت الذاكرة تعيد رسم مشهدٍ قديم لا يموت، بل يتخفى خلف الضجيج. الفيلم لا يسقط في فخ الميلودراما، بل يرسم الشخصية بصرامة نفسية باردة، كمن يكشف عن وجه جرحٍ قديم من دون أن يرفّ له جفن، حتى تلك اللقطات التي تُعرض فيها صورة والده على جدار المرآب، لا تأتي مشبعة بالنوستالجيا، بل كأيقونةٍ مقدسة لشبحٍ لا يغادر.
الحلبة جسد داخلي
تُقدَّم «الفورمولا وان»، في العُرف السائد، كأقصى اختبار للجسد البشري، القدرة على التحمّل، دقّة في التركيز، سرعة في ردّ الفعل، لكن الفيلم يقلب هذه المعادلة رأساً على عقب، فالحلبة هنا لا تُرسم كميدان خارجي فقط، بل تتجسّد كاستعارة خالصة لجسد «جاك» نفسه، والمنعطفات الحادّة، الضغط الهيدروليكي، الكبح المفاجئ كلّها تتحوّل إلى انعكاسات محسوسة لتقلّباته النفسية، وكأن السيارة لا تنطلق داخل المضمار، بل تجوب تجاويف روحه المتكسّرة، وتدور في متاهة داخلية من الخوف والشكوك والندوب القديمة.
المخرج يشتغل على هذه الفكرة بذكاء بصري لافت، إذ تتحوّل زاوية الكاميرا تدريجياً من المشهد الواسع إلى اللقطة المقربة على العيون وهي تومئ بما لا يُقال، على القفص الصدري وهو يرتجف تحت ضغط غير مرئي، على قطرات العرق التي لا تخرج من حرارة الحلبة، بل من فوهة الخوف المكبوت، ففي إحدى اللحظات، تتوقف الكاميرا عند يده المرتجفة قبيل انطلاق السباق، وكأنّها تطرح سؤالاً مُعلّقاً في الفراغ هل يرتجف الجسد خوفاً؟ أم تذكّراً؟ أم لأننا ببساطة لم نعد نملك السيطرة على دواخلنا؟
الذوبان في الآلة
في أحد أكثر المشاهد تكثيفاً، نرى جاك يدخل سيارته كما لو أنه يذوب فيها، لا فرق بين المعدن والعظم، بين المكبس والنبض، لا يبدو أنه يقود، بل بالأحرى يُقاد، كما لو أن الآلة التهمت قراره وصاغت إيقاعه الداخلي على مقاسها، ومن هنا تبرز إحدى أكثر الثيمات استفزازاً في الفيلم: هل تُفقدنا التكنولوجيا إحساسنا بالذات حين تتماهى معنا إلى هذا الحد؟ هل تعيد تشكيل وعينا حين نلتصق بها حتى تنمحي الحدود بين الجسد والآلة، بين الإرادة والبرمجة؟
يستدعي الفيلم، بشكل ضمني، مقولات المفكّر الألماني هربرت ماركوز، أحد رموز مدرسة فرانكفورت النقدية، والباحث الفرنسي بول فيريليو، المنظّر في فلسفة التكنولوجيا والسرعة، في نقدهما الحداثي، ليؤسّس من خلالها بُعداً فلسفياً يوسّع السرد من سيرة فردية إلى تشريح حضاري أوسع، حيث لا يكون «جاك» مجرد سائق يجلس خلف المقود، بل شخص تلاشت حدوده مع الآلة التي يستخدمها، حتى بدا وكأنه جزء منها، يتحرك كما تتحرك، ويستجيب كما تُبرمج. ففي رؤية ماركوز عن «الإنسان ذي البُعد الواحد»، يغدو الكائن البشري خاضعاً لمنطق الأنظمة التقنية إلى درجة يُفقد فيها قدرته على التفكير النقدي والرفض، ويُختزل إلى أداة داخل ماكينة أكبر. أما فيريليو، فيحذّر من تسارع الإدراك و«التقهقر البطيء للوعي» أمام المدى الهائل للآلة، حيث تتحوّل السرعة من وسيلة إلى قيد، وهذا ما يفعله الفيلم من دون خطاب مباشر.
الصورة والموسيقى
الإخراج في الفيلم، لا يوازي العمق النفسي فحسب، بل يعمّقه ويعيد ترجمته بصرياً، واللغة السينمائية مشغولة بعناية تُحاكي اضطراب البطل الداخلي، العدسات الطويلة تعزل «جاك» عن محيطه كما تعزله ذاكرته، الإضاءة الحادّة تكشف أكثر مما تُجمّل، لا مساحة للدفء، والموسيقى تميل إلى التجريب الصوتي بدلاً من الإيقاع التقليدي، وكأنها تتهجّى توتراً لا ينضبط.
أما المونتاج، فيتلذذ بتقطيع الزمن لحظات من البطء الشديد تتخللها ومضات متسارعة، وكأن الفيلم لا يريد أن يمنحنا لحظة راحة، بل أن يُبقينا على حافة القلق، تماماً كما يعيش «جاك» كأنفس متوترة تتسابق بلا خط نهاية، وكل عنصر في التكوين البصري يبدو امتداداً لذلك الداخل المرتبك، وكأن الكاميرا لا تُصوّر فقط، بل تُصاب بما تصوّره.
الهشاشة
يوضح المخرج المصري أمير رمسيس أن الفيلم ليس عن رياضة السيارات، ولا عن السباق كما نعرفه في جوهره، هو لحظة صمت طويلة أمام هشاشة الإنسان عندما يُطلب منه أن يكون أسرع مما يحتمل، وأقوى مما يشعر، فيلم عن الركض نعم، لكن ليس نحو خط النهاية، بل هرباً من شيء غامض يسكن الداخل لا اسم له.
ويضيف رمسيس: «ما لفتني في هذه التجربة لم يكن الحلبة، بل كل ما تخفيه، لم يكن السائق في عينيّ بطلاً خارقاً، بل شخصاً يبدو أسطورة من الخارج، بينما هو في أعماقه طفل ضائع يبحث عن حضن لم يجده يوماً، والفيلم كما رأيته لا يحتفي بالنجاح، بل يكشف هشاشته، لا يُمجّد الفوز، بل يُضيء على الخسارة الأصعب، وهي أن تفقد نفسك وأنت تنجح».
