د. عبد الحافظ شمص
برحيل زياد الرحباني، لا تفقد الساحة الفنية العربية فنّاناً فحسب، بل تخسر رمزاً من رموز الإبداع، وعقلاً موسيقياً نادراً، ومثقفاً صدامياً أعاد صوغ الأغنية والمسرح والسياسة في قالب فني جريء، صادق، وساخر. نجل السيدة فيروز والراحل عاصي الرحباني، لم يركن إلى مجد والديه، بل شقّ طريقه الخاصة، المعبدة بالتمرّد والاختلاف.
مسيرة من التمرد والإبداع
وُلد زياد في 1 كانون الثاني\يناير 1956 في أسرة فنية أسّست لما عُرف لاحقاً بـ”المدرسة الرحبانية”. ظهرت موهبته مبكراً، وكتب أولى مسرحياته “سهرية” في عمر السابعة عشرة. لم يكن مجرد مؤلف موسيقي، بل كان مفكراً، كاتباً مسرحياً، وعازف بيانو عبقرياً، وخطاباً سياسياً متنقلاً فوق المسارح وبين الميكروفونات.
مزَج زياد بين السياسة والموسيقى، بين النقد الساخر والواقع القاسي، فجاءت أعماله مثل “بالنسبة لبكرا شو”، و”فيلم أميركي طويل”، و”نزل السرور”، تعبيراً صريحاً عن وجع المواطن اللبناني والعربي. لم يتوانَ عن نقد الطائفية، الفساد، والاستبداد، بلغة شعبية فيها من الفكاهة ما يخفّف حدّة الحقيقة.
موسيقى تكتب التاريخ
أعاد تعريف الأغنية العربية المعاصرة. لم تكن ألحانه محكومة بالقوالب الكلاسيكية، بل كانت مليئة بالجاز، البوب، والبلوز، ومفعمة بالأحاسيس والتجريب. أعطى السيدة فيروز لوناً مختلفاً في أعمال مثل: “كيفك إنت”، “بصوتك بترجعلي”، و”ولا كيف”. كما غنّى بنفسه، بصوتٍ خافتٍ مليء بالشجن والسخرية، أغانٍ بقيت في وجدان جيل بأكمله مثل: “أنا مش كافر”، و”بما إنو”.
حزنُ الغياب
في رحيله، يُطوى فصل فريد من فصول الفن العربي، فصل كُتب بحبر التمرّد والصدق. زياد لم يكن فناناً فحسب، بل كان ضميراً ناطقاً، جريئاً، لم يخشَ مواجهة أحد، ولم يتصالح يوماً مع الرداءة أو الاستسلام. برحيله، يخسر العالم العربي رجلاً صادقاً في زمن كثرت فيه الأقنعة.
لكن زياد لا يُختصر في حياته، بل يبقى صوته، كلماته، وموسيقاه، شاهدة على زمنٍ نحتاج إليه كلما ثقل علينا الكذب، واشتدت وطأة القهر.
إرث لا يموت
سيبقى زياد الرحباني مدرسة قائمة في ذاتها، لكل من يرفض الانصياع، ويؤمن بأن الفن ليس للزينة، بل للمواجهة. سيبقى رفيق وجداننا، من مقاهي شارع الحمرا، إلى أثير الإذاعات، إلى شرفات البيوت حيث تُدندن موسيقاه في ساعات الليل المتأخرة.
وداعاً زياد… غيابك خسارة لا تُعوض، لكنك حيّ فينا، في جملةٍ ساخرة، في لحنٍ حزين، وفي لحظةِ صدقٍ نادرة.
أختيار اسم زياد
أُذكّر، بأنّي عندما وُلد زياد، قرأت في مجلّة “الصيّاد” طلباً للمساعدة
باختيار اسم للمولود الجديد، وكنت في دار الإذاعة اللبنانيّة في مبنى
السّرايا قبل الانتقال إلى محلّة الصنائع، في مكتب المرحومين أسعد سابا
وعبد الجليل وهبي، في حضور المرحوم فيلمون وهبي.
فاقترحت اسم زياد، وحظي بموافقة الجميع… وكان زياد
بكلّ ما يملك من مواهب ربّانيّة، رحمه الله…