الأمن والاقتصاد:

فرص وتحديات إعادة بناء سوريا الجديدة

 

 

 

 

 

ظلت العلاقة بين الأمن والاقتصاد بعيدة عن الاهتمام لقرون، وظل يُنظر للأمن القومي باعتباره مجالاً منفصلاً عن الاقتصاد وأبعاده. واهتم الاقتصاديون بدراسة الظواهر الاقتصادية بعيداً عن محيطها المرتبط بالأوضاع الأمنية، غير عابئين بالعلاقة بين الجانبين؛ لكن مع تزايد الاستقطاب الجيوسياسي في النظام الدولي، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، وقر في ذهن المفكرين أن هناك علاقة مباشرة بين ما يحدث في هذا السياق، وبين الاقتصاد والتنمية. وبعد أن تحولت مظاهر الاستقطاب الدولي إلى مهدد للاقتصاد العالمي واستقراره، توجه الاهتمام لدراسة العلاقة بين الأمن والتنمية، وظهرت مفاهيم جديدة تسد ثغراتها، كمفهوم “الأمن الاقتصادي”، الذي اعتبر جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي بمفهومه الشامل.

والآن يُنظر لظاهرتي الأمن والتنمية على أنهما مترابطتان ويصعب التمييز بينهما، ومن العسير تحديد أيهما أكثر تأثيراً في الآخر، وأيهما يُعد متغيراً مستقلاً وأيهما يُعد متغيراً تابعاً؛ أو بمعنى أوضح أيهما يبدأ في التأثير في الآخر وأيهما يصبح بمثابة رد الفعل لذلك التأثير. وإبان كل ذلك، وقر في ذهن الجميع أنه كلما تقدمت التنمية تقدم الأمن، وكلما توافر الأمن تحسنت ظروف الإنتاج والتطور الاقتصادي. وكلما نظم المجتمع أموره ومدَّ نفسه بما يحتاج؛ فإن درجة مقاومته للمهددات الداخلية والخارجية تزداد بدرجة كبيرة. كما باتت مؤشرات الأمن والمخاطر ضمن أهم المؤشرات التي يضعها مخططو السياسات الاقتصادية في الحسبان، كما أنها أصبحت تحتل مراتب متقدمة ضمن المعايير التي يهتم بها المستثمرون وأصحاب رؤوس الأموال الدوليون، ويستخدمونها في المفاضلة بين الأسواق ووجهات الاستثمار المحتملة.

في هذا الإطار، تُعد التجربة السورية خير مثال على توضيح العلاقة شبه العضوية بين الأمن والتنمية، وأهمية كل منهما للآخر. فعلى مدى الخمس عشرة سنة الممتدة بين عامي 2011 و2025، شهدت سوريا حالة مزمنة من عدم الأمن، وانعداماً تاماً للسلام، في ظل الحرب الأهلية التي شغلت كل تلك الفترة. وكان ذلك سبباً لتعرض البلاد لخسائر إجمالية قدرت بنحو 800 مليار دولار، وفق البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. وهذه الخسائر الكبيرة هي حصيلة ما تعرضت له البلاد من تراجع في الناتج المحلي الإجمالي، وتدمير على المستوى القطاعي والبنى التحتية والأصول والمرافق، وكذلك الخسائر التي تعرضت لها الحكومة، وتلك التي مست الأفراد بشكل مباشر؛ بجانب انحدار مؤشرات التنمية في البلاد إلى مستويات لم تشهدها من قبل في تاريخها الحديث. هذا الواقع المعقد جعل من مهمة إعادة الإعمار في سوريا، أو بالأحرى إعادة بناء الدولة الجديدة، أمراً محفوفاً بالصعوبات والتحديات.

أولاً: التكلفة الاقتصادية لعدم توافر السلام والأمن في سوريا

1- الاقتصاد الكلي:

استقبل الاقتصاد الكلي في سوريا صدمة كبيرة جراء الصراع الممتد في البلاد، فقد على إثرها حصيلة ما جناه من عوائد للتقدم الاقتصادي والاجتماعي على مدى أربعة عقود سابقة، وفق ما يقدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. وتعرض الاقتصاد السوري لانكماش سنوي بلغ متوسطه نحو 5.2% خلال الفترة من 2011 إلى 2023؛ ووصل معدل الانكماش في بعض السنوات إلى نحو 26%، خصوصاً خلال السنوات الأولى من الصراع.

نتيجة لذلك، تراجع الناتج المحلي الإجمالي لسوريا إلى 20 مليار دولار في عام 2023، بعد أن تجاوزت قيمته 61 مليار دولار في عام 2010، قبيل اندلاع الصراع، وفق ما تشير إليه تقديرات البنك الدولي. وما يظهر حجم الكبوة الكبيرة التي تعرض لها اقتصاد البلاد في هذا السياق، هو أنه في حال كان هذا الصراع لم يقع، وفي حال واصل الاقتصاد نموه بنفس المعدلات التي حققها في السنوات التي سبقت الصراع مباشرة، فقد كان من الممكن بلوغ ناتجه الآن نحو 120 مليار دولار؛ أي ستة أضعاف مستواه المحقق الآن في ظل الصراع؛ بمعنى آخر؛ فإن اقتصاد سوريا فقد نحو 100 مليار دولار على صعيد الناتج المحلي الإجمالي فقط بسبب الصراع.

ومن المؤشرات ذات الدلالة أيضاً في هذا الإطار، يأتي عجز الموازنة العامة للحكومة السورية، الذي وصل إلى مستويات قياسية، بلغت نحو 30% عام 2023، وهناك تقديرات ببلوغها نحو 26% في عام 2024. ويشير هذا المستوى المرتفع إلى أن هناك فجوة كبيرة في التمويل لدى الحكومة؛ ما يجعلها غير قادرة على تأمين نحو ثلث النفقات اللازمة للوفاء بالتزاماتها تجاه موظفيها، فيما يتعلق بالرواتب، وبتمويل النفقات اللازمة لتوفر المرافق والخدمات العامة، كالكهرباء والمياه والصرف الصحي، والتعليم والصحة، وغيرها من الخدمات العامة المرتبطة بدور الدولة بشكل عام. وتُعد نفقات الأمن والدفاع من البنود المتأثرة سلباً في هذا الإطار؛ وهو ما يمثل تحدياً كبيراً للحكومة الحالية، من أجل إحلال الأمن والسلام الاجتماعي، ناهيك عن تأمين نفقات الدفاع في صورته العسكرية المباشرة، والمتعلقة بحماية الحدود والأمن القومي للبلاد.

ويُعد معدل التضخم بدوره من المؤشرات المعبرة كثيراً في الحالة السورية؛ فقد شهدت البلاد تضخماً مفرطاً في معظم السنوات التي مرت منذ بداية الصراع، بما تخطى مستواه في بعض السنوات نحو 150%؛ الأمر الذي رفع متوسط معدل التضخم السنوي منذ عام 2011 إلى عام 2024 لما يزيد على 40%. وهو ما يشير إلى مدى التدهور الذي تعرضت إليه العملة السورية أمام العملات الأخرى، فيما يتعلق بقوتها الشرائية في الأسواق المحلية؛ التي شهدت ما يمكن تسميته “انهيار نقدي كامل”، بما يعنيه ذلك من ضغوط معيشية بالنسبة للأسر، ومجمل القطاعات والأنشطة في البلاد.

2- رأس المال البشري:

تسبب الصراع في خسائر كبيرة لسوريا فيما يتعلق برأسمالها البشري؛ فقد أدى إلى خسارتها لأكثر من 700 ألف شخص، بين متوفين ومفقودين. كما دفع الصراع والظروف الصعبة الناتجة عنه إلى هجرة نحو 6 ملايين نسمة من السكان إلى الخارج، وذلك بين عامي 2011 و2017. وبرغم أن موجة الهجرة تحولت إلى الداخل في السنوات التالية؛ فقد ظل نحو 2.5 مليون نسمة من السوريين الذين هجروا بلادهم خلال سنوات الصراع يعيشون في الخارج حتى نهاية عام 2024؛ هذا يعني أن الصراع أفقد سوريا نحو 10% من إجمالي سكانها. ومن الناحية النوعية فلا بد من الإشارة إلى أن سوريا تعرضت لخسائر تتعدى البعد الكمي فيما يتعلق برأسمالها البشري، خصوصاً إذا أخذ في الاعتبار أن من يستطيعون الهجرة في سنوات الصراع – في أي بلد- هم في الغالب من ذوي الثروات، ومن الفئات عالية التأهيل من الطبقة الوسطى.

وهناك بعد آخر يتعلق بالخسائر على صعيد رأس المال البشري في سوريا، وهو يتمثل في ارتفاع معدلات البطالة خلال سنوات الصراع إلى نحو 75% من إجمالي القوة العاملة؛ وهذا يعني أن واحداً من كل أربعة سوريين في سن العمل هو في عداد العاطلين؛ وهذا المستوى القياسي للبطالة يمثل ثلاثة أضعاف مستويات البطالة في سنوات ما قبل الصراع؛ ما يعبر عن مستوى الانحدار الذي تعرضت له سوق العمل في البلاد، ولا تقف دلالات هذا المؤشر عند هذا الحد، بل إنه يعنى أنه من مجمل حجم القوة العاملة في البلاد، البالغة نحو 6.6 مليون عامل، هناك نحو 4.95 مليون عاطل عن العمل؛ ما يشير إلى أن هناك عبئاً كبيراً على الاقتصاد لتوليد فرص العمل اللازمة لاستيعاب هذا الكم الكبير من الأيدي العاملة المعطلة. بجانب ذلك، يعبر المؤشر ذاته عن ارتفاع كبير في نسبة الإعالة، وعن تراجع كبير في نسبة المشاركة في النشاط الاقتصادي؛ ومن ثم انعدام فرصة استفادة المجتمع السوري من موارده البشرية على المستوى الأمثل.

نتيجة لذلك، تراجع مؤشر التنمية البشرية في سوريا لأدنى مستوى على الإطلاق، منذ بداية تسجيل البيانات في عام 1990. بجانب ذلك، فقد تضاعف معدل الفقر في سوريا ثلاث مرات، منذ عام 2011 حتى عام 2024؛ ليصل إلى نحو 90% من إجمالي عدد السكان، وفق تقديرات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة؛ بما يعني أن هناك نحو 22.1 مليون نسمة من السوريين في عداد الفقراء، ويعيش كل منهم على أقل من 3 دولارات في اليوم. ونتيجة لذلك، يعتمد نحو 75% من السوريين الآن على المساعدات الإنسانية، بما يعنيه ذلك من أعباء ومسؤوليات إضافية على الحكومة والمجتمع.

3- المرافق العامة:

كانت البنى التحتية والمرافق العامة في سوريا عرضة للاستهداف المباشر خلال سنوات الصراع؛ الأمر الذي عرض معظمها للتدمير الجزئي أو الكلي؛ وانطبق ذلك على كافة القطاعات، بما في ذلك المساكن والمرافق الصحية والتعليمية، ومرافق المياه والصرف الصحي، والبنى التحتية لقطاع الطاقة، وغيرها. وتسبب كل ذلك في حالة دمار شبه كامل للأصول والبنى التحتية في البلاد، وفرض على الحكومة الجديدة في البلاد، أو من يعقبها من حكومات، مسؤوليات كبيرة، وحملها أعباءً مالية ثقيلة.

فقد تعرض ثلث المساكن في سوريا لدمار جزئي أو كلي؛ مما ترك نحو 5.7 مليون شخص من دون مأوى؛ كما أدى الصراع إلى تضرر معظم المدارس في مختلف المناطق؛ ما جعل ما بين 40 و50% من الأطفال (في سن 6 إلى 15 عاماً) لا يذهبون إلى المدارس. كما تضرر أكثر من نصف محطات المياه والصرف الصحي بسبب الدمار الذي لحقه؛ ما ترك نحو 14 مليون شخص، أو أكثر من نصف سكان البلاد، من دون مياه صالحة للشرب أو خدمات للصرف الصحي. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن نحو 70% من محطات توليد الطاقة الكهربائية في سوريا تم تدميرها كلياً أو جزئياً؛ ما تسبب في فقدان البلاد نحو 80% من طاقتها الكلية لتوليد الكهرباء.

ثانياً: فرص التعافي وبناء الدولة الجديدة

1- تكلفة إعادة البناء وفرص تأمينها:

في حال توافر الأمن والسلام والاستقرار في سوريا، تتوقف فرص تعافيها من أزمتها الاقتصادية والتنموية الراهنة على تمكنها من الموازنة بين جانبين مهمين، أولهما تكلفة إعادة الإعمار التي تتراوح بين 400 مليار دولار، وفق تقديرات للأمم المتحدة، و900 مليار دولار، وفق تقديرات جامعة الدول العربية؛ وثانيهما هي قدرة سوريا، بحكومتها ومجتمعها، على توفير هذه النفقات. مع الأخذ في الاعتبار أن الحد الأقصى لتلك التقديرات هو الأقرب إلى المنطق، ولا سيما أنه يقترب بشكل أو بآخر من التقديرات المتعلقة بالخسائر التي تعرضت لها البلاد خلال سنوات الصراع، والتي تبلغ نحو 800 مليار دولار، كما سبقت الإشارة.

ولا ريب أن محاولة فك شفرة المعادلة، بين جانبي التكلفة الكبيرة لإعادة الإعمار من ناحية، والقدرة على توفير الأموال اللازمة لتغطيتها من ناحية أخرى، هي مهمة تبدو معقدة، بل وإن الإجابة المنطقية تميل إلى ترجيح أنه ليس بمقدور سوريا تأمين تلك الأموال الكبيرة اللازمة لإعادة الإعمار؛ ومن ثم محدودية قدرتها على الوفاء بشروط إعادة بناء الدولة الجديدة. لكن برغم ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن سوريا ليست بحاجة لتأمين الأموال اللازمة لإعادة الإعمار دفعة واحدة، بل هي بحاجة لتأمين الجزء الذي يكفي لتغطية الحاجات الملحة، والمتعلقة بتوفير الحد الأدنى من المرافق والخدمات العامة، بما يضمن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في الأجل القصير.

وفي هذا الإطار، تشير تقديرات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة إلى أن خروج سوريا من وضعها المعقد الحالي، وبشكل عاجل، يستلزم تأمين استثمارات بقيمة 36 مليار دولار خلال 10 سنوات؛ أي بمعدل 3.6 مليار دولار سنوياً، مع تركيز استثمار هذه الأموال في بناء الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي؛ وإعادة بناء البنية التحتية للخدمات والمرافق (كالصحة والتعليم والطاقة)؛ وتعزيز الإنتاجية، لخلق فرص العمل وتخفيف الفقر؛ وتنشيط قطاع الزراعة؛ من أجل دعم الأمن الغذائي. وفي حال تم تحقيق ذلك، من الممكن أن يتعافى الاقتصاد السوري من كبوته خلال عقد من الآن.

2- أهمية ودور الدعم الدولي:

لا تقتصر عملية تأمين الأموال اللازمة لإعادة الإعمار في سوريا على القدرات المحلية فقط، بل يمكن تأمين جزء من تلك الأموال عبر مصادر خارجية. وفي هذا السياق، شهدت الأشهر الأخيرة، منذ سقوط نظام بشار الأسد، العديد من المؤتمرات الدولية، التي شهدت تقديم دول إقليمية، مثل قطر والسعودية وتركيا؛ وقوى دولية، كالدول الأوروبية والولايات المتحدة؛ ومؤسسات دولية، كالبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، تعهدات بتقديم منح ومساعدات وقروض لسوريا، ناهيك عن التوصل لاتفاقات بشأن تنفيذ استثمارات بها؛ وبلغ إجمالي ما تم التعهد وحشده من استثمارات في هذا السياق نحو 58 مليار دولار.

تفوق هذه التعهدات حجم الأموال اللازمة لتعافي الاقتصاد السوري وتأمين الاحتياجات الملحة من المرافق والخدمات – على مدار العقد المقبل- بنحو مرة ونصف، لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن حصول سوريا على تلك الأموال يظل غير مؤكد، في ظل حالة عدم الاستقرار الأمني التي تمر بها، والتي ستكون – في حال استمرارها- مانعاً لتدفق الاستثمارات، والتي تمثل الجزء الأكبر من التعهدات الدولية. كما أن حصول سوريا على الأموال الواردة في بعض بنود تلك التعهدات، وبخاصة الأوروبية والأمريكية، مرهون بشروط، تتعلق باستيفاء معايير ترتبط بحقوق الإنسان والمشاركة والتمثيل السياسي، وغيرها؛ ومن ثم فالحصول عليها لن يكون سلساً، سواءً من حيث الانتظام أم من حيث الاعتبارات الموضوعية، والتي عادةً ما تكون غير واضحة.

وفي الختام، فلا بد من التأكيد أنه في ظل الاعتبارات السابقة، وغيرها، لا يمكن لسوريا التعويل كثيراً على الدعم الخارجي في تأمين احتياجاتها التمويلية اللازمة للتعافي الاقتصادي العاجل، وفي إعادة الإعمار وإعادة بناء الدولة الجديدة. فمن الأهمية بمكان، أن يعي السوريون، وحكومتهم، أن نهضة بلادهم الحقيقية تعتمد على توافر السلم الاجتماعي والاستقرار الأمني في المقام الأول، والتقدم في الحياة السياسية بما يحقق تطلعات الجميع، وعودة المهجرين من الخارج. وإذا توافرت هذه الظروف؛ فإنها ستضمن تمكن المجتمع من الاستفادة من موارده، وتوظيفها بالشكل الأمثل، وفي تلك الحالة؛ فإنه لن يكون بحاجة إلى المساعدات الخارجية، وسيكون في مأمن من أي خطر يتعلق بالإفراط في التعويل عليها كمصدر للتمويل.