علي عبد الرحمن 

في عصر تنهال فيه الصور وتتكدّس فيه الحكايات على الشاشة كأنها استجابات آلية لطلب السوق، تميل السينما التجارية إلى النمطية، متكئة على وصفات جاهزة لاختزال الإنسان في أداء عضلي أو بُعد أحادي. 
لكن فيلم «The Accountant 2»، يخرج من هذه الدائرة كما يخرج بطله من صمته، من دون صراخ، ومن دون وعود، بل ببرودة الجراح التي لا تلتئم. هذا الفيلم لا يسعى لإبهارك، بل لاستدراجك إلى داخل متاهة نفسية، حيث الحساب لا يُقصد به الأرقام فحسب، بل جرد الذات، وزن الألم، ومراجعة الندم. 
نحن أمام عمل لا يقدم بطلاً فحسب، بل يقدّم قضية متنكرة في هيئة رجل، شخصية مضطربة ومُنضبطة في آن واحد، عقلانية حتى التطرّف، وعاطفية بطريقة لا يُجيد التعبير عنها إلا بالعنف. «كريستيان وولف» ليس مجرد قاتل بارع أو عبقري حساب، بل حالة وجودية كاملة، وتجسيد لأسئلة مُعلّقة بين الصواب والخطيئة، بين العدالة والانتقام، بين الحضور والغياب.
منذ اللحظة الأولى التي يُطل فيها «كريستيان وولف»، والذي يُجسّده الممثل الأميركي «بن أفليك» بحضور ثقيل ونبرة صامتة، ندرك أننا لا نرى عودة البطل كما عهدناه، بل عودة الظل الذي خلفه، ولم يعُد الرجل كما تركناه في نهاية الجزء الأول، الزمن لم يمر عليه كمرور العابرين، بل كمطر ثقيل امتصّته ملامحه، فغاص عميقاً في صمته، وتحوّل سكونه من لحظة راحة إلى إقامة دائمة في عزلة لا تُرادف السلام، بل الانفصال البطيء عن كل ما تبقى من العالم.
التحوّل هنا ليس فقط في مظهر «كريستيان»، بل في بنيته الداخلية، ولم يعُد يركض نحو الخلاص، بل يفرّ منه، ولم يعُد يقاتل أعداء خارجيين، بل يلاحق أطيافاً لا اسم لها، أشباحاً تسكن بين طبقات ذاكرته، وأصواتاً مكتومة تتردد في داخله كصدى لا ينتهي، ما يُطارده هذه المرة لا يتجسد في أجساد، بل يتكثف في الارتجافة الخفيفة التي تسبق سحب الزناد، في النظرة الخالية من الندم التي تخفي خلفها عالماً من الذنب.

عودة «كريستيان»، ليست استئنافاً لحكاية قديمة، بل هو نفيٌ جذري لها، ولا يتابع مسار الجزء الأول، بل يُقوّضه، يُراجعه، يعترض عليه ضمناً، كما أنه لا يعود بصفته آلة فائقة الدقة تنفّذ برنامجاً متقناً، بل بصفته كائناً يجرؤ على الوقوف في مواجهة البرمجة ذاتها، وعودته هي أشبه بعودة الظل، لا الضوء، عودة النفس إلى تلك المرآة المتكسّرة التي لم تعد تعكس صورة متماسكة، بل تناثراً لجزيئات الهوية، وانشطاراً للذات في صمتها الداخلي.
هكذا لا يعود البطل حاملاً لواء الانتصار، بل منكسراً بما يكفي ليُعيد اكتشاف ذاته، لا عبر البطولة، بل عبر السؤال: من أكون حين لا يُطلب مني أن أُنقذ أحداً؟ من أكون حين لا يبقى سواي في ساحة الحساب؟ وفي هذا الانقلاب السردي، تغدو العودة ليست إلى الخارج، بل إلى الداخل، حيث الظل هو المرشد الوحيد، وحيث لا يقين سوى في ما لا يُقال.
من أعمق ما يقدّمه الفيلم، وربما أكثر عناصره نضجاً ونفاذاً إلى جوهر الإنسان، معالجة العلاقة المعقدة بين كريستيان وأخيه، ولا نتحدث عن مجرد ثنائية تقليدية بين النظام والفوضى، بين الانضباط والانفلات، بل عن لقاء وجودي بين جرحين ينزفان بصمت مختلف، والأخ ليس نقيضاً درامياً، بل مرآة مشروخة، لا تعكس البطولة، بل تفضح العطب، لا تُجسّد الانكسار فقط، بل تكشف أنه الوجه الآخر لكل محاولة للنهوض.
الأخ، ذلك الذي اختار الانحراف، لا يُقدَّم كشرير أو خصم، بل كشخص لم يحتمل المسار المستقيم، كأن الصواب نفسه كان ضيقاً عليه، وفي هذا التمرد تتجلى هشاشة بشرية لا تقل صدقاً عن التزام كريستيان بالنظام. الاثنان، رغم تباين مساراتهما، يسيران على سكة واحدة: الخوف، والذنب، والوحدة.
اللقاءات بينهما لا تُقدَّم كحوارات اعتيادية، بل كصدامات وجودية عارية، وكل عبارة تنطوي على أسى غير مُفصح عنه.

الموسيقى
الموسيقى في الفيلم، لا تُعلن حضورها، بل تتسلل كأنفاس مكتومة، لا ترفع الحدث، بل تهمس به. هذا التقشف السمعي ليس نقضاً، بل موقفاً، الفيلم لا يصرخ ليدهشك، بل يهمس ليوقظك، حتى الصمت فيه مشحون، ليس غياباً للكلام، بل فائضاً من الكلام الذي لا يُقال.
والفيلم، ليس تيمة نمطية، بل تأملاً نادراً في سينما باتت تكره التأمل. إنه فيلم عن الذات وهي تواجه نفسها، عن الحساب لا بوصفه مهنة، بل كفعل وجودي في زمن صاخب، تأتي هذه الحكاية هامسة لتسأل: من يُحاسب من؟ وهل نملك الشجاعة لفتح دفاترنا الداخلية؟