المخرج المكسيكي جييرمو ديل تورو، الذي سبق أن نال “الأسد الذهبي” عن فيلمه Shape Of Water، يعود هذه المرة بعمل لا يليق بمكانته الفنية الرفيعة، فيلم Frankenstein من إنتاج منصة “نتفليكس”، وقد أثار مجرد ظهور شعارها على الشاشة بعض الهيصات بين الحضور.

    مشروع ضخم بلغت موازنته 120 مليون دولار، لكن هل كان له السيطرة النهائية على المونتاج؟ علماً أن مشكلات الفيلم تتجاوز هذه العقبة الفنية وحدها. كان هذا المشروع حلماً ظل دل تورو يحمله فترة طويلة، إلا أن الفجوة بدت شاسعة بين الصورة التي رسمها في مخيلته والنتيجة النهائية التي تجسدت على الشاشة، التي تركت معظمنا في حال من الدهشة السلبية، خصوصاً أن مسيرة دل تورو السينمائية حتى اليوم خالية من أي تعثر فني كبير، مما يجعل هذه التجربة استثناءً مؤلماً.

    وصف الناقد بيتر دوبروج في مجلة “فارايتي” الفيلم بأنه “مشروع حلم دل تورو الذي طال انتظاره، لكنه وصل متخماً وغير متماسك، لا يرقى إلى التوقعات التي وضعها أنصاره”.

    يقدم لنا دل تورو قراءة جديدة ومغايرة لرواية ماري شيلي التي تعد واحدة من أبرز النصوص المؤسسة لأدب الرعب التأملي والخيال العلمي الأخلاقي عبر التاريخ.

    في قلب هذه الحكاية يكمن فيكتور فرانكنشتاين (يؤدي دوره أوسكار أيزك)، العالم الطموح الذي يدفعه جنون الابتكار إلى تجاوز حدود الممكن، متسلحاً برغبة في فك أسرار الحياة والموت.

    لكن ما يبدأ كتجربة علمية سرعان ما يتحول إلى مأساة أخلاقية، حين يمنح فرانكنشتاين الحياة لمخلوق مشوه (يجسده جاكوب إلوردي)، لا ذنب له سوى أنه خرج من رحم التجربة بعيداً من الصورة الإنسانية المتعارف عليها، بدلاً من أن يتحمل مسؤولية اختراعه ويعتني به، يتخلى عنه، فاتحاً بذلك الباب على مصراعيه لسلسلة من الكوارث.

    لكن ما الذي دفع دل تورو إلى إعادة إحياء هذا الأصل الأدبي الذي سبق أن شق طريقه إلى السينما منذ بداياتها، وكان له اقتباسات متعددة عبر العقود؟ يروي قائلاً: “هذا الفيلم يمثل خاتمة رحلة شخصية بدأت قبل سبعة أعوام، حين شاهدت للمرة الأولى أفلام فرانكنشتاين من إخراج جيمس ويل. في تلك اللحظة الحاسمة، شعرت بوميض وعي داخلي: أصبح الرعب القوطي لدي كدين جديد أتبعه، وبوريس كارلوف تحول إلى مسيحي الروحي. التحفة الأدبية لماري شيلي تحمل بين طياتها تساؤلات تآكل روحي، أسئلة وجودية ناعمة في حساسيتها، برية في عمقها، لا مهرب منها. هي تساؤلات يجرؤ العقل الشاب على طرحها، وتلك التي يعتقد الكبار والمؤسسات أنهم يملكون الإجابة عنها، لكن بالنسبة إليَّ، فقط الوحوش تمتلك تلك الإجابات، فهي جوهر اللغز ذاته. من هنا، ينبثق فرانكنشتاين في رؤيته كرسالة مقدسة، مدفوعة بالإجلال والحب. هذه قصة أب معطاء وابن ضائع، كحوار بين أيوب ولازاروس”.

    رغب دل تورو في نزع الرهبة البدائية من قصة فرانكنشتاين، محولاً إياها إلى دراما عائلية تركز على العلاقات الإنسانية، لكن هذه المحاولة لم تفلت من الملل القاتل. فبغض النظر عن نيات المخرج الفكرية أو احترامه العميق للنص الأصلي، لا يقدم الفيلم أكثر من صراعات سطحية بين الخير والشر.

    دل تورو، المعروف بروحه التجديدية، وبراعته في خلق عوالم المخلوقات التي طبعت أفلامه الأبرز، يخيب هنا آمال جمهوره، إذ نجد أنفسنا أمام تجربة بصرية جافة، تمتد ساعتين ونصف الساعة، بلا أي إثارة تذكر. عمل ينطوي على إيقاع رتيب وشخصيات باهتة، وأحداث متسلسلة تفتقر إلى التضاريس الدرامية، إنما تغرق في حوارات مباشرة، ترميز مبالغ فيه، ووعظ لا يخدم النص.

    جمالياً، يفشل الفيلم في تخطي مصاف “الكيتش”، فتبدو الصورة وكأنها مشغولة بالذكاء الاصطناعي، بعيداً من لمسات دل تورو التي كثيراً ما أبهرتنا. نفقد اهتمامنا سريعاً، وتتحول تجربة المشاهدة إلى مجرد انتظار للختام.

    هذه سينما عفا عليها الزمن، تستخدم لغة بصرية قديمة، ولا يعني هذا أننا نحجم عن الكلاسيكية، فهي بطبيعتها تتجاوز الزمان، لكن ما أمامنا هنا أقرب إلى أكاديمية فاقدة للخيال. حتى موسيقى ألكسندر ديسبلا، الذي أسعدنا بألحانه في “فندق بودابست الكبير”، تأتي باهتة.

    جرت العادة أن تسقط الأفكار والتأويلات الرمزية على أفلام كهذه، بخاصة حين تحمل طابعاً أسطورياً، لكن دل تورو خلال المؤتمر الصحافي للفيلم، أكد أنه لم يقصد من فيلمه أن يكون مجرد استعارة. قال “نحن نعيش في زمن يسوده الإرهاب والترهيب بلا شك، ولا توجد مهمة أكثر إلحاحاً من أن نحافظ على إنسانيتنا في ظل عالم يدفعنا نحو تصور ثنائي قطبي لتلك الإنسانية”. وشرح أن الفيلم يحاول تقديم شخصيات غير كاملة، مؤكداً حقنا في أن نظل هكذا. وختم ممازحاً: “لست أخاف من الذكاء الاصطناعي، بل من الغباء الطبيعي”.

    * هذا المحتوى من موقع إندبندنت عربية