كما الخبز هو عماد الأمن الغذائي فإن الودائع هي عماد الأمن الاقتصادي. 

 

هناك بعض العوامل والمؤشرات الجديدة في معضلة الودائع:

 

1- وجود عهد جديد وحكومة جدية أخذت قراراً سياسياً شجاعاً بتفسير دستوري لحصرية السلاح والعمل على تنفيذه، علماً أن الحكومة تسير بصعوبة بالغة بين فِخاخ الطبقة السياسية الفاسدة والمتعودة على المحاصصة والزبائنية.

 

2- وجود حاكم جديد ومجلس مركزي وهيئة مصرفية ولجنة رقابة جديدة ووزير مالية نشيط وذي خبرة.

 

3-إقرار بعض القوانين المالية والمصرفية الإصلاحية وبدء العمل على إنجاز قانون الفجوة المالية، وهو بيت القصيد في هذه الملحمة المفتوحة منذ انفجار الازمة في 17/10/2019 التي فجرت انتفاضة الغضب.

 

4- ظهور المزيد من المظالم والخزعبلات التي يتعرض لها المودعون، خصوصاً في تطبيق التعاميم وتعديلاتها، كما في استمرار الدولار المصرفي بـ15000 رغم إلغاء التعميم 151 في أواخر 2023 ورغم تصريح وزير المالية منذ استلامه الوزارة والذي قال فيه بأن الدولار المصرفي يجب أن يتبع السوق وإن بسقف لا يتجاوز المسموح به بالليرة احتواءً للتضخم. ويبدو أن سعادته بلع تصريحه المبكر، كما فعلها الرئيس ميقاتي مراراً من قبله.

 

لن نعود لسابقة إغلاق المصارف والأعمال السوداء التي قامت بها بالتناغم مع رياض سلامة ومع طبقة سياسية مافيوية، كانت متواطئة أو مستقوية بفائض قوة ميليشيا “حزب الله”.

 

ولن نكرر سيرة صيرفة والدعم المخادع وقضية استيفاء ديون البنوك بدولار 1500 وتجارة الشيكات، وقد قيل في ذلك أكثر مما قاله مالك في الخمرة، إلا أنه يجب ألا نقبل “بعفا الله عمّا مضى”.

 

صدر التعميم 158 في حزيران/ يونيو 2021 أي بعد حوالي سنة و 8 أشهر من انتهاء خلوة المصارف في 31/10/ 2019، واعتمد هذا التاريخ فاصلاً بين نوعين من الودائع الدولارية.

 

الودائع الدولارية المكونة قبل 31/10/2019  والتي أخضعت لشروط كي “تتأهل” بعد أن تنزل منها مجموعة من المبالغ أهمها: المبالغ المقبوضة نقداً بالعملة الأجنبية بعد 31/10/2019 والمبالغ الدولارية المحولة للخارج أو محلياً بواسطة مراسل بعد هذا التاريخ وما إلى ذلك. وعلى أن لا تحتسب مجموعة من المبالغ الدولارية، أهمها المحولة بعد هذا التاريخ من الليرة للدولار.

 

فتح التعميم 158 الذي بدأ بـ800$ (400$ كاش+ 400 تصرف على 12000،وهو الآن 800$ نقدي) صندوق باندورا، خصوصاً أنه خلال المدة الطويلة الفاصلة بين 31/10/2019 وصدور التعميم حصلت عمليات مصرفية اضطرارية بحكم التعثر، خصوصاً بالنسبة للذين عندهم ودائع دولارية من الزمنين، ومنهم من اضطر عند استحقاق وديعة النوع الأول قبل صدور 158 أن يوزع الوديعة أو بعضها ضمن المصرف نفسه لأقارب أو لمصرف آخر بسبب الإرباك الناتج من التعثر، كما الطبيعة التقنية لبعض الحسابات.

 

الحاكم السابق للبنك المركزي اللبناني رياض سلامة (أ ف ب)

الحاكم السابق للبنك المركزي اللبناني رياض سلامة (أ ف ب)

 

هكذا أرسى رياض سلامة نظرية الوديعة المؤهلة والوديعة غير المؤهلة، جاعلاً من نفسه حاكماً وقاضياً في أهلية التحويلات من الليرة التي قام بها المودعون بعد 31/10/2019 وقبل إعلان التعثر، علماً أنها تمت بموافقة المصرف المعني والمصرف المركزي الذي رغب مسؤولوه على ما يبدو بامتصاص كتلة نقدية كبيرة بالعملة اللبنانية من ودائع جارية، بغض النظر عن حجم الملاءة الدولارية. علماً أن جزءاً من هذه الودائع جرى امتصاصها عند الاستحقاق تدريجياً بهيركات عالي بالتعميم 151 بعدما تم بحبحة وتحييد أصحاب الودائع الصغيرة بالليرة وإخراجهم من القطاع المصرفي.

 

في أواخر 2023 حاول الحاكم بالنيابة منصوري إمساك العصا من الوسط بإصدار تعميم الخرجية 166 الذي بدأ بـ150$ ورفع لاحقاً لـ400$، والتعميم 682 المعدل لـ158 لجهة الإفادة من بعض الحسابات المحولة من مصرف لآخر بعد إرجاعها، إلا أن التضييقات والتنزيلات التي احتواها التعميم 158 والتعسف بتفسير وتطبيق البنود بما يخالف النص أحياناً جعلت فئة المستفيدين من التعديل 682 تضمر كثيراً.

 

هكذا فإن فتات التعميم 158 لم تطل كثراً ممن كان عندهم ودائع دولارية قبل 31/10/2019 واقتيدوا منصاعين نحو تعميم الخرجية.

 

إن استمرار هيمنة فراعنة السياسة والاقتصاد والمال على الكثير من مفاصل الدولة العميقة، خصوصاً بعد قرار إطلاق سراح الفرعون الصغير، يجعلنا حذرين مما هو قادم في موضوع الفجوة المالية، خصوصاً أن اللوبي المصرفي متعشّش في المجلس النيابي.

 

لذا ندعو قوى المجتمع المدني، بما فيهم جمعيات المودعين وجميع الحريصين على العدل والعدالة إلى التنبه وإلى مواكبة هذه القضية الأساسية بكل تفاصيلها ومراحلها وسياقاتها كي لا يستسهل تدفيع الفئات المستضعفة مزيداً من أثمان الفساد السياسي والمالي والمصرفي والأخلاقي.

 

– المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية.