تنظيم الإعلام الجديد.. استثمار في المستقبل
منذ أكثر من عقدين، حين بدأ العالم يكتشف قوة الإعلام الجديد ويختبر تأثيراته، كانت الإمارات تفكر بطريقة مختلفة؛ لم ترَ في الإعلام مجرد وسيلة للتواصل، بل طاقة إبداعية يمكن أن تتحول إلى صناعة متكاملة تبني اقتصادات جديدة وتصنع قصص نجاح ملهمة.
ومنذ تلك اللحظة، اختارت الدولة أن تكون صانعة لاتجاهات الإعلام، تجعل من تنظيمه أداةً لفتح الآفاق وحماية القيم وتعزيز الثقة. وحين تأملت مقاربة جون هاوكينز، في كتابه الاقتصاد الإبداعي (2001)، والتي يرى فيها أن هذا الاقتصاد «يبني القيمة من خلال الخيال بدلاً من الموارد التقليدية» أدركت أن الإمارات برؤية قيادتها؛ سبقت هذا التفكير بخطوة؛ فقد وضعت معادلة جديدة للاستثمار في الإعلام، لم تكتفِ فيها بمتابعة التحولات، بل صاغت مسارها وحددت معاييرها، لتجعل من الإعلام اقتصاداً إبداعياً حقيقياً تتحول فيه الأفكار إلى صناعات متكاملة ونجاحات وطنية مؤثرة.
جاءت التحديثات التشريعية في قطاع الإعلام لتجسد هذا التوجه بوضوح؛ من إصدار قانون تنظيم الإعلام نهاية 2023، كأول قانون شامل ينظم القطاع منذ أكثر من أربعين عاماً، وحتى إطلاق المنظومة الإعلامية الجديدة في مايو الماضي والتي تُعد مرجعاً شاملاً لتنظيم جميع أنشطة الإعلام في الدولة، وخارطة طريق تستند إلى رؤية استراتيجية واضحة: أن يكون للإمارات إطار تشريعي مرن، حديث، ومتكامل، يغطي كل تفاصيل صناعة الإعلام، ويمنح الثقة للمبدع والمستثمر والجمهور معاً.
ندرك في دولة الإمارات أن قوة الإعلام الجديد لا تُبنى بقرارات منفردة، بل تقوم على شراكات واسعة مع جميع الأطراف الفاعلة، حيث نتواصل مع المنصات العالمية، والشركات المحلية، وصنّاع المحتوى، والمستثمرين، لنستمع إلى رؤاهم وملاحظاتهم واحتياجاتهم التنظيمية، ونجعلهم جزءاً أصيلاً من عملية التطوير. فلسفتنا: لا نفرض التشريعات، بل نصوغها بالشراكة، لأن القوانين التي تنظم القطاع ينبغي أن تنطلق من واقع العاملين فيه وأن تُصمم لتلبي احتياجاتهم، وتفتح أمامهم مسارات النجاح. نؤمن بأن كل ما يمكّنهم ويدعمهم سيعود بالنفع المباشر على اقتصادنا ومجتمعنا.
إن «تصريح مُعلِن» مثال حي على هذا النهج؛ فقد أطلقناه لتعزيز الشفافية في إعلانات صناع المحتوى الإعلاني على مواقع التواصل الاجتماعي، وليكون جسراً يربط بين المبدع والسوق ضمن إطار واضح وعادل. وقد أُعفي الأفراد من الرسوم لثلاث سنوات متتالية، لنمكّنهم من الانطلاق بثقة ونمنحهم فرصة للنمو دون أعباء إضافية. والنتيجة التي نسعى لتحقيقها خلال ثلاث سنوات؛ سوق أكثر نضجاً، ومحتوى أكثر ثقة، واستثمار أكثر استقراراً.
لغة الأرقام تؤكد أننا في الطريق الصحيح: فيتوقع أن يصل حجم اقتصاد صناعة المحتوى عالمياً إلى ما يقارب 480 مليار دولار بحلول عام 2027، وهو ما يجعل هذا القطاع أحد أسرع مسارات النمو في الاقتصاد العالمي. ومن هنا، تضع الإمارات لنفسها هدفاً واضحاً: أن يكون لها حضور قوي وفاعل في هذا الاقتصاد الجديد، لأننا نرى في صناع المحتوى نواة لرواد أعمال المستقبل في قطاع الإعلام.
لدينا في الإمارات الفرص، ولدينا الاقتصاد، ولدينا الأدوات التنظيمية الحديثة، والأهم لدينا حكومة داعمة بمبادرات متنوعة، تؤمن بقدرة هذا القطاع. نرى اقتصاد صناعة المحتوى جزءاً أساسياً من اقتصاد المستقبل، وعنصراً محورياً في تحقيق رؤية «نحن الإمارات 2031». وتنظيمنا لهذا القطاع ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتحقيق ثلاثة أهداف كبرى: بناء الثقة بين المجتمع والمحتوى، وتمكين المواهب وتحويلهم إلى رواد أعمال قادرين على تأسس مشاريعهم الريادية والمنافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية، وتحويل الإبداع إلى قيمة اقتصادية تعزز تنافسية الدولة عالمياً.. جوهر رسالتنا: قيادة التحول في تنظيم الإعلام وصياغة معاييره، لتبقى بيئتنا الإعلامية عنواناً للثقة، ومحركاً للنمو، ومصدر إلهام للأجيال القادمة.
*المدير التنفيذي لقطاع الاستراتيجية والسياسات الإعلامية – مجلس الإمارات للإعلام.
