يسكن عبيدو باشا في العرزال الرحباني المطوّب باسم عاصي، ينطق عن عِشرة نقد وصحبة رؤية، فيفرقُ في كلامه بين وعيٍ وغفلة، ولا يماري القول فيما لا ينفع ، فيعطي للحديث عن عاصي بعداً فلسفياً، يجعل منه أديباً لا ناقدا فحسب، عملة ذهبية من وجهَين، وصائد أفكار متمرساً حدّ الإقناع والذهنية، وهذا مطلوب حتما عند القارئ الحصيف، الذي يميّز الخيط الرفيع الحساس بين الوجدانيات والحقائق، أن يستخلص من بين الأسطر ما هو حق، وهي مهمة شاقة من دون شك، لا نفشي سراً إذا قلنا إنها جعلت الكثيرين ينتهون إلى أنّ ما يكتبه باشا غير معلوم المراد، وفي هذا وللحقّ افتئاتٌ على رؤية الرجل وعمقه ؛ فعبيدو رائد بنّاء لمكونات اللغة من بيان وبديع، عفوا وموهبة، يحتفي بالاشكالية التي تصدر عن قضايا اجتماعية، كالتي بين أيدينا من على حوافّ النقد، عادّاً الأخير مكوّنا عضوياً من الثقافة، لا يجوز انكفاؤه على ذاته، وهذا ما يحتفي به في استشكال سيرة عاصي، حيث لا يخادع عبيدو القارئ بتجديد الذكريات بين السطور، إنما يتجاوز إلى نسخ الماضي بالحاضر اتصالا بالمستقبل، قائلا إننا نتحمل الخسارة إذا ما فقدنا شيئاً ثميناً أو ثروة، أو عزيزاً من صديقٍ أو أخٍ أو حبيب، لكننا لا نطيق قطعاً فقدان الأمل، فهو يكسر ظهرنا، ويطفئ النور في أعيننا وقلوبنا، ويفتح العقل للخرف والضياع، تماماً كما أنه من التعسف والتعدي، ومهما اختلف الخطاب، أن نقطع الرحم بين الرحابنة، فهذا الأخير يعود إلى أرومة واحدة يحكمها التراحم والإنسانية ورسالة المسرح.

تلقّطَ عبيدو باشا محاسن عاصي الرحباني، بين أخذٍ وردّ، مسرحَ الأسطورة على عتبات اليقين، فتناوله بالشخصي والفني من غير جانب، حتى انتهى إلى مخرجات ملأى بالإثارة، أحد وجوهها تحرير العقل الجمعي من هيمنة الروايات المكررة، التي لطالما أدارت رحى طواحين البحث والكتابة وضجيجها الممقوت في سير الرحابنة آباء وأبناء، وانبعاثاً لما كان خفي عن سمع وأبصار معظم من كتبوا وحللوا منطق السيرذاتي في حياة هذا الرجل. دوزن باشا مفاهيمه على مفردات النقد العاقل وبمنظومة أدواته الأشد اشتباكا مع الواقع، فصدّر عاصي بأشهر ما عثر عليه، فيه، من مزايا إنسانية، ولم يفتئت في توفير الخلفية العلمية لما يسيل به قلمه، فكان هذا كتاب عاصي بلا منازع. قصداً أو عفوا، بوّب عبيدو كتابه على ترتيب التباعد بين عاصي ومنصور، وفيروز حتما، مشكّلا بالرؤى، مستشكلا بالفرضيات التي لامستْ الحقائق وقدمت التفاسير لحساسيات ما آلت إليه تلك التجربة العظيمة اليوم، حيث لم يكن باشا تأويليا، بل تنضيديا مُرتِّباً الوقائع والحقائق، بمنهج موضوعاتي، دقيق عميق، مدفوع بالإبداع، جعل من أنساق كتابه كتلةً من قضايا وأحاسيس ومواقف بين القديم والمتأخر من حياة عاصي الصاخبة، ما ليس موجودا في ذواكر الناس وبين أيديهم، وفي ذلك دليل على عنايته بالمسرح الرحباني حدَّ الوسوسة. ما فات عبيدو شيئاً من سيرة عاصي، عِلماً بالشّخصي أو بالقراءة أو بالسماع، أو ما استنبطه بالاستنتاج الذي هو قاعدة علمية، حتى نجد أنّ حياة كبير الرحابنة لا تُخاض إلا في أوان الحوليات الخالدة، وأنه لا تتفتح أزاهير هذا العلَم المسرحي إلا على ضفاف الخصوصية الحضارية للأمم. لقد فعلها باشا، في كتابه « تعا ولا تجي: مئة عام على ولادة عاصي الرحباني»، ينبش باشا في مئوية مرّت على ولادة الأخير بين 1923 و 2023، متسوراً بالأسئلة حائط مدينة الرحابنة، على امتداد 600 صفحة من القطع الكبير، لم يمنع ثقلها المعنوي على القارئ وهو يقلبها للمرة الأولى بين يديه، أن تعتريه الدهشة من أولاها، متسائلاً عمّا يمكن قوله، أو كتابته بعد في عاصي، مليكها الشرعي.

دلَفَ باشا إلى حلّ التباسات كبيرة مثيرة في حياة الأخير، فنظّم الأشكال المتقلبة والمتبدلة من سيرته، معيداً رسمها في مناخاتها الصحيحة والصحية، مرةً واحدة وأخيرة للتاريخ، لكيلا يُدان النقد من بيت أبيه، إذ يجد باشا لكل خلخلة شخصية أو عائلية حلاً مُقنِعاً يفسرها، وبرهاناً يزكيها، وكأنها درسٌ لا بدّ منه، من علاقة فيروز بعاصي ثم بمنصور، فدعاوى الحقوق المادية بين منصور وفيروز، وانتقالها بالاطّراد إلى الأبناء خائضين في الحقّ والباطل في إرث الأخوَين المؤسِّسَين، إلى غير ذلك من تفاصيل المشكلات التي أثارت غضب الشارع الثقافي والفني على مستويات مختلفة، ودفعت بعبيدو في توتير الإشكالية حدّ التعقيد الذي يأتي بعده الحل، بعيداً من جنائزية النقد ومراثي الراحلِين، بلُغةٍ آسرة منحوتة الكلمات من واحة العربية، رقيقها وعميقها، تسهُلُ منطقاً وتدبُّرا، بأفكاره الحسان الجياد، الغرّاء المُبرّزة دقته في التشخيص والعلاج، بين وقائع ومفارقات وعواقب، تبرّر الحسّ النقدي الذي أقعده للنظر بين جيلَين من عمر التجربة الرحبانية، لا حكَماً ولا حاكما، إنما تقديراً على لطف الصُّحبة وخصوصية «المَونة».

في أحد عشر فصلا، تحدّث باشا عن كلّ شيء في حياة عاصي وبعد وفاته، إنها محاسن الوقائع لا محاسن الصُّدَف، لامست حساسيات الآن الراهن في علاقة فيروز بأبناء منصور، مفكّكاً التباساتها التي يبدو أنها لم تنته إلا بالمواجهة إحقاقاً للحق، كلّ من وجهة نظره وربما مصالحه؛ صحيح أن باشا حاول لعب دور رجل الصُّلح، لكنه غمز من قناة الجميع في ما بسطه حول هذه القضية، وكان هذا تجلياً هوياتياً للعقل النقدي وهو يواجه الورثة الذين لم يتنبهوا إلى أهمية التجربة الرحبانية، فتصرفوا كغيرهم من الناس!
نجح باشا في توصيف أهمية التجربة الرحبانية مرفوعةً على كتف عاصي، سواء في مجايلته رواداً صنعوا المسرح اللبناني وبزّهم في ميدانه، كمنير أبو دبس وأنطوان ملتقى ونضال الأشقر وروجيه عساف وشوشو، أو في من صنعهم هو نفسه وبيديه وتحت نظره، فيضاً من كفاءات شقّ معظمها طريقه بثقة ونجاح، وما أكثرهم / ن، إلى رؤيته، ومنصور، في ضرورة منع التلفزيون من التهام المواهب الأدائية، لعلمهما ربما، بالحدس أو الاختبار، أنّ الشاشة الصغيرة تصنع النجوم سريعاً، وتحرقها سريعاً أيضا، وحفاظاً ودفاعا عن خصوصية المسرح، بالممارسة والاجتهاد والإنتاج الضخم المستمر، حيث لنا أن نسأل : ماذا لو أغرتْ أو غرّرت الشاشة الصغيرة بالأخوَين فاحترفوها تاركين المسرح لمصيره؟ وحيث يكمن الجواب في ثقة الجمهور، الذي لم يستسلم لعاصفة التلفزيون، وأبقى على العهد في الهامش الكبير الذي منحه للخشبة الرحبانية. لقد جعل باشا من عاصي الاسبارطي الأخير، قصةً شعرية، رواية شعبية، بل ملحمة، أنجزت الكثير وواجهت الظلام، عاصي الروم أرثوذكسي العربي الأصيل، شخصية رجل ذكي وحسّاس معا، ولكنه غامض بعمق ووعي، صنع مسرحه بعيداً من الأيديولوجيا الرّنانة بالشعارات، والتي قد تغوي كثيرا من الجمهور، وبعيداً من الخطابية في عروضه الخالدة التي تصلح لكل زمان ومكان: زيّون ميس الريم، لولو في لولو، إبنة الملك في بترا، بنت الحارس، هالة، وغيرها في سياق ما ينبغي لكل صانع مسرح فذ أن يبدعه في شخصياته، والتي محورها فيروز. أشار باشا بألمعية إلى فيروز الفنانة، والزوجة، وجعل العلاقة مع عاصي على مستويي الفن والحياة الخاصة، رائياً إلى أن علاقة عاصي بفيروز غيرها علاقته بالزوجة، ففيروز ليست الزوجة: الأولى مثال يملكه العالم، والثانية قناعة وحبّ وعلاقة خاصة انكسرتْ بالتوتر والخلاف، وحتى رحل عاصي الذي لطالما عدته فيروز إنساناً رائعا، حتى بعد طلاقهما. يحدد باشا إذن، جمالية العلاقة الفنية الجميلة المفعمة بالغناء والسفر والفرح والموسيقى والكلمة والرقص، مقابل حقيقة الزيجة المولّفة بعناوين مهزوزة كالرضى والاتفاق والسعادة بعيدا من الواقع، محاطة بالصمت المطبق والمطلق، فلا تزال غائبة مُخبّأة عن الناس وقد تدفن إلى الأبد.

كاتب لبناني