خاص ـ المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات  ـ ألمانيا وهولندا ECCI

الأمن الدولي ـ لماذا اختار بوتين تصعيد هجماته بعد قمة ألاسكا؟

يقول إيفو دالدر، السفير الأمريكي السابق لدى حلف شمال الأطلسي ، هو زميل بارز في مركز بيلفر بجامعة هارفارد: “روسيا في حالة حرب مع أوروب، تشن حربًا علنية في أوكرانيا منذ أكثر من عقد، وبضراوة متزايدة منذ حرب أوكرانيا عام 2022، لكن حرب أوكرانيا ليس سوى جزء من حرب روسيا الأوسع ضد أوروبا ككل. إن الغارات التي شنّتها طائرات بدون طيار على بولندا ورومانيا، والتحليق في المجال الجوي الإستوني، تسلّط الضوء على النوايا الأوسع نطاقًا لموسكو، تقسيم أوروبا والولايات المتحدة، وإضعاف الدعم الشعبي للعمل العسكري القوي، وإنهاء دعم القارة لأوكرانيا”.

ما هي أسباب التصعيد الروسي على الدول الأوروبية؟

لم تأخذ أوروبا هذا التهديد على محمل الجد. فضّلت اعتبار عمليات روسيا الهجينة المتصاعدة الاغتيالات، والهجمات الإلكترونية، وتخريب البنى التحتية الحيوية، وحملات التضليل، وغيرها منطقة رمادية دون مستوى الصراع المسلح. وكان ردّها المختار هو تعزيز القدرة على الصمود، مع إدانة روسيا علنًا أحيانًا على أفعالها. في الأساس، لم تفرض أوروبا أي تكلفة على موسكو بسبب تحريضها السري ضد القارة، وهذا خطأ.

هذا الفشل هو السبب وراء التصعيد الملحوظ في هجمات الكرملين على أوروبا خلال السنوات الثلاث الماضية. وكما يُشير تقرير جديد صادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، فقد ازداد عدد هذه الهجمات مع اندلاع الحرب الشاملة، والسبب واضح، فقد عرقلت دفاعات أوكرانيا العنيدة في ساحة المعركة، والدعم الذي تلقّته من أوروبا والولايات المتحدة. أشار جهاز الاستخبارات البريطاني MI6، إلى أن “روسيا ببساطة لا تملك القدرة الكافية لإخضاع أوكرانيا بالكامل بالقوة”. وأضاف: “نعم، إنهم يتقدّمون ببطء شديد وبتكلفة باهظة، ولا يزال جيش بوتين بعيدًا كل البعد عن تحقيق أهداف غزوه الأصلية، لقد حمّل بوتين أكثر مما يستطيع تحمّله”.

ما هي أهداف روسيا من تصعيد الهجمات؟

السبيل الوحيد لموسكو لتحقيق أهدافها هو إضعاف الدعم الأوروبي لأوكرانيا واستغلال الانقسامات داخل دول حلف شمال الأطلسي وفيما بينها، وهذا ما تهدف إليه حربها السرية ضد أوروبا. يُفصّل تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية عدد الهجمات الروسية على البنية التحتية الأوروبية، التي تُشنّ على منشآت مرتبطة بالحرب في أوكرانيا. ومع تراجع قدرات الجيش الأوكراني في عام 2023، تضاعف عدد الهجمات على أوروبا 4 مرات تقريبًا، واستهدفت بشكل متزايد “القواعد ومنشآت الإنتاج والمرافق المشاركة في نقل المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا”. في النصف الأول من العام 2025، انخفضت الهجمات بشكل ملحوظ، مما يعكس على الأرجح تقييم موسكو بأن عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة ستُضعف الدعم لأوكرانيا.

وبالفعل، حدث ذلك: فقد أنهت واشنطن مساعداتها العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا، وسعت إلى حل دبلوماسي للحرب يتقبّل العديد من شروط موسكو. ولكن حتى مع تغيير الولايات المتحدة لمسارها، ظلّ التزام أوروبا تجاه أوكرانيا ثابتًا بل وازداد، إذ تناقش الدول الأوروبية الرئيسية بجدية نشر قوة أمنية كبيرة في أوكرانيا بمجرد انتهاء القتال؛ وترسل الحكومات الأوروبية، بقيادة ألمانيا، كميات كبيرة من الأسلحة إلى أوكرانيا ــ بما في ذلك بعض الأسلحة التي تم شراؤها من الولايات المتحدة؛ ويتزايد الدعم المالي لاقتصاد البلاد وصناعة الدفاع المتوسعة بسرعة؛ وهناك عقوبات إضافية في الأفق؛ ويفكّر الاتحاد الأوروبي بجدية في الاستيلاء على الأصول الروسية المجمّدة. أمام هذا الالتزام القوي، يسعى بوتين الآن إلى بذل جهود أكبر.

لماذا التصعيد الروسي بعد قمة ألاسكا؟

ربما لم يكن من قبيل الصدفة أن كل هذا بدأ بعد اجتماع الرئيس الروسي مع ترامب في ألاسكا، حيث قيّم بوتين احتمال عدم قدرة الولايات المتحدة على مقاومة المزيد من التصعيد من موسكو. ومن الواضح أن التصعيد قد حدث فمنذ ذلك الاجتماع، كثّفت روسيا قصفها لأوكرانيا، بما في ذلك أكبر هجوم بالطائرات المسيّرة والصواريخ في الحرب، والذي وقع في سبتمبر 2025. وحتى مع تزايد جرأة جهوده العسكرية داخل أوكرانيا، قرّر بوتين اختبار أوروبا وحلف شمال الأطلسي. كان رد الولايات المتحدة على الانتهاكات المتكررة فاترًا بشكل ملحوظ، حيث أشار ترامب ومسؤولون آخرون إلى أن هجوم الطائرات المسيّرة على بولندا ربما كان خطأً، كما أوضح الرئيس أنه “لن يدافع عن أحد”. من جانبه، انعقد حلف الناتو مرتين لمشاورات المادة الرابعة – أولًا بناءً على طلب بولندا، ثم إستونيا. كما أعلن عن تعزيز وجوده العسكري على طول الجناح الشرقي. ومع ذلك، لم يدفع بوتين ثمنًا ــ وإلى أن يفعل، ستواصل روسيا التصعيد، بهدف إضعاف الدعم الأوروبي لأوكرانيا وتقسيم التحالف.

ما الذي يمكن لأوروبا أن تفعله؟ 

إحدى الأفكار، التي أيدها وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي، هي توسيع نطاق دفاعات حلف الناتو باعتراض الطائرات المسيّرة والصواريخ فوق الأراضي الأوكرانية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال مقاتلات أوروبية وأنظمة دفاع جوي تعمل انطلاقًا من المجال الجوي الأوروبي أو أراضيه، أو فوق سماء أوكرانيا. وسيكون هذا إجراءً دفاعيًا يُسهم بشكل مباشر في دفاع أوكرانيا. إجراء آخر هو توضيح أن أي توغل روسي آخر في المجال الجوي أو الإقليمي أو البحري الأوروبي سيؤدي إلى عمل عسكري يهدف إلى تدمير أو تعطيل النظام المخالف. وهذا بدوره سيشكّل إجراءً دفاعيًا، مما يقلّل من احتمال استمرار روسيا في انتهاك الأراضي الأوروبية. ينبغي على أوروبا أن تُزوّد أوكرانيا بالقدرة على ضرب المراكز اللوجستية الحيوية ومرافق دعم الحرب في روسيا. أنتجت كييف طائرات مُسيّرة بعيدة المدى، وهي بصدد وضع اللمسات النهائية على تطوير صواريخ باليستية أصابت بالفعل منشآت طاقة روسية وغيرها. ويمكن للقارة الأوروبية أن تُساهم في هذا المسعى بأسلحة ودعم أكثر تطوّرًا.

النتائج

انتقلت روسيا من أدوات الحرب الهجينة إلى تصعيد مباشر يشمل المجال الجوي الأوروبي، مستفيدة من الانقسامات داخل الناتو، ومن تحول السياسة الأمريكية بعد عودة ترامب. فشل أوروبا في فرض تكلفة حقيقية على موسكو مقابل اعتداءاتها السابقة مكّن الكرملين من التمادي، في ظل غياب ردع فعّال. يعكس التصعيد الروسي استراتيجية واضحة تهدف إلى تقويض الدعم الأوروبي لأوكرانيا عبر الضغط العسكري والنفسي المستمر على الدول المجاورة.

أوروبا أمام لحظة حاسمة: إما أن تتوحّد في رد صارم يشمل الدفاع النشط داخل وخارج أوكرانيا، أو تستمر في إدارة الأزمة بردود محسوبة، ما يشجّع موسكو على المزيد من المغامرة. مع ضعف الرد الأمريكي، تبرز ضرورة قيام أوروبا بدور أمني مستقل وأكثر جرأة، لا سيما في مجالات الدفاع الجوي والهجمات السيبرانية والدعم العسكري الاستباقي لأوكرانيا. كذلك، فإن أي فشل جديد في الردع سيؤدي إلى اتساع رقعة الحرب وارتفاع خطر المواجهة المفتوحة على حدود أوروبا الشرقية. إذا لم يتم كبح بوتين الآن، فإن التهديد لن يبقى مقتصرًا على أوكرانيا، بل سيمتد إلى صميم الأمن الأوروبي الجماعي.

رابط مختصر..  https://www.europarabct.com/?p=109977