صالة سينمائية: الأفضل أنْ تكون فارغة من دون ثرثرة (Getty)
مُجدّداً، تعليقٌ مُكرّر عن حالة، يبدو أنّها مستمرّة، إذْ لا أحد ينوي أو يملك القدرة على إنهائها. حالةٌ تشهدها صالات سينمائية في بيروت، وفي مدنٍ عربية تُنظّم فيها مهرجانات سينمائية “دولية”، وهذا غير مانعٍ تفشّي الحالة تلك: كلامٌ واتصالات هاتفية أثناء العرض. هذا حاصلٌ أيضاً في صالةٍ، يُفترض بها أنْ تكون “صالة فن وتجربة”، أي إنّها غير “تجارية”، ما يعني أنّ على “روّادها” إدراك شروط المُشاهدة السينمائية في صالةٍ، لا في منزل. كلامٌ يعكس تعليقات لا فائدة منها، وإزعاجٌ يُسيء إلى الفيلم والصالة، وإلى من يحترم أصول تلك المُشاهَدة. الأسوأ أنّ هذا يحصل في عرضٍ منضوٍ في تظاهرة سينمائية ـ ثقافية، لا في عرضٍ عادي لأفلامٍ، غالبيتها الساحقة غير معروضة في صالةٍ كهذه.
هذا دافعٌ إلى نفورٍ من المُشاهدة في الصالات التجارية منذ سنين، فالحسّ التجاري البحت يتحكّم بأصحابها، وبموزّعي أفلامها. لكنْ، أنْ يحصل هذا في صالة مختلفة، يرتادها أناسٌ يُفترض بهم/بهنّ أنْ يكونوا مختلفين، لاختيارهم إياها لمُشاهدة المختلف في الإنتاجات السينمائية، فهذا مُثير لاشمئزاز ويأسٍ من فئة لبنانية، تدّعي علماً ووعياً وثقافة ومعرفة، فإذا بها تكشف أنّ المكان الوحيد اللائق بأفرادها يتمثّل بصالات تجارية استهلاكية، مفتوحة على الفوضى والتفاهة والسطحية. وكمبالغة أُضيف: هذه الفئة يجب أنْ “تُمنع” من المرور أمام صالة سينمائية، أصلاً.
المأزق الأخطر أنْ لا حلّ لمعضلة كهذه، لارتباطها أساساً بأخلاقٍ مفقودة. هذا لا يُدرَّس ولا يُعلَّم، بل يُكتَسب من علم ومعرفة، لكنّهما مُنعدِمان، ومن سلوك طاغٍ ينسحب على مسائل حياتية، تُحدِّد الشخصية وتصرّفاتها ونظرتها إلى الآخر. إنْ لم يكن هناك احترامٌ للذات، فلا بأس لأنّ هذا شأنٌ شخصي. لكنْ، ألّا يكون هناك أي احترامٍ لأي شيء أو أحد، فهذه مصيبة، بل مرضٍ عضال.
سيُقال إنّ هؤلاء قلّة، لكنّ هذا لا يُبرّر تصرّفاتها. ومع أنّها قلّة، يستحيل ضبطها، فأفرادها يُسيئون إلى كلّ شيءٍ وكلّ أحد مرتبطٍ بالسينما، ومُدرك أهمية احترام شروط المُشاهدة والتزامها. ألن يكفي السماح بإدخال “بوب كورن” إلى “صالة فن وتجربة”، وما يُثيره هذا من إزعاج؟ ألن تكفي إضاءة هاتف خلوي بين حين وآخر، أو الساعة الذكية، كأنّ صاحبهما ـ صاحبتهما مهمومان بالسلام في الشرق الأوسط الجديد، أو بمصير كوكب الأرض والاحتباس الحراري، أو باليوم التالي على انتهاء حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة؟
ثم يستاء مخرج/مخرجة من طلب ناقدٍ الحصول على رابطٍ لمشاهدة فيلمه في هدوء المنزل، بحجّة أنّ الشاشة الكبيرة تمنح مشاهدة أفضل وأهم، ويبدآن بترداد كلامٍ عن التقنيات، والجهد الجبّار لإنجاز الفيلم، وهذا يُحتَرَم للغاية بعيداً عن أي نقدٍ لاحقٍ للمُشاهدة. هل يُدرك هذان المخرج والمخرجة أنّ الثرثرة في صالةٍ تعرض “الجهد الجبّار” مُسيئة إليهما أولاً، وإلى جهودهما الجبّارة، وإلى من “يرغب” في مشاهدة على شاشة كبيرة، لـ”التمتّع” بنتائج تلك الجهود؟ أيظنّ المخرج والمخرجة أنّ المشاهدة في منزل، بأي شكلٍ من أشكال التقنيات الحاصل عليها الناقد، ستحول دون تنبّهه إلى ما في الفيلم من جماليات، أو من عدمها؟ ماذا لو أنّ الجهود الجبّارة تلك تُنجِز فيلماً غير مستحقّ مشاهدته في صالة سينمائية، على شاشة كبيرة، مع أناسٍ يُثرثرون عن الفيلم وأشياء أخرى، لكشف مدى سعة علمهم ونباهتهم ومعارفهم؟
هذا يُذكّر بعروض صحافية لأفلامٍ أجنبية في بيروت، في أعوامٍ سابقة. إنّها مُصيبةٌ أكبر وأخطر، فعاملون وعاملات في النقد والصحافة السينمائية والإعلام غير متردّدين إطلاقاً عن ثرثرة أثناء العروض تلك في صالة سينمائية، لإظهار براعةٍ شخصية لديهم في التقاط “المُخبّأ” في الفيلم، من دون انتظار النهاية، والخروج من الصالة لاستعراض براعاتهم. أمّا حجة الاتصالات الهاتفية أثناء العرض (لن يُكلِّف أحدٌ نفسه الخروج من الصالة)، فكامنةٌ في أنّ الاتصال ضروري لأغراض مهنية. هل نحن في صالة للاحتفال بمناسبة عائلية، أمْ لمشاهدة فيلم، وهذا جزء أساسي من المهنة؟
سأظلّ أفضِّل المشاهدة في المنزل، مع غياب القليل مما تمنحه الصالة السينمائية من شروطٍ أصيلة للمُشاهدة. فغياب كهذا أفضل من تحمِّل ثرثرة، ستحول حتماً دون متعة متكاملة توفّرها الشاشة الكبيرة.