هذا هو شوقي أبي شقرا (1935-10/10/2024)، وهو ابني (أو أبي) الحبيب الذي به سُررتُ، ويجب أنْ أستخرج له بطاقة الهوّيّة، وإخراج القيد، ليس من أجلي إنّما من أجل التاريخ ومن أجل القرّاء، ويجب أنْ أذهب إلى المختار والخوري والدولة، فأقيّد تاريخ الولادة، لأنّ الشاعر عندما وُلد، تكّت ساعة الحائط تك تك تك، وكسرتْ زجاجها تك، وتكّت أوه. والروزنامة رفعتْ حاجبيها وأوراقها وكلساتها وراحت تنطّ في الماء. ووالدة الشاعر التي يشكّها الوجع كمار جرجس في ظهرها، غلّطت وتنهّدت: ولدي قام في آذار، والخوري بلّل قلم الرصاص بريقه وبالنبيذ كتب: ولدنا قام في نيسان، وكبر في العنصرة. والفلكيّ ربط الأبراج وذبح الدلو وأخذ نقطة من دمه وكتب: وُلد الصبيّ من السماء في خدّه شامة وحارسه ملاكٌ أصفر وتنّين الصين.
وبعد، وأيّا يكن، واجبي أنْ أضع النقاط على الحروف في شأن شوقي أبي شقرا، ومَن له أذنان سامعتان فليسمع، ومَن ليس له فليرَ بعينيه، وبقلبه، وبالعقل، وبالعرفان، وبالاعتراف، وبالوفاء، ومجتمعين. والمسألة ليست مسألة جيوش الكترونيّة، ولا أقلام غبّ الطلب، ولا مجاملات، ولا مدائح، ولا مرثيّات، ولا تبادل مصالح، ولا مواقع نفوذ، وإنّما المزامير فلتصدح، ولتُلقَ، وإنْ قال القائل، على مَن تُلقي مزاميركَ يا (ابن) داوود!
وأنا صوتٌ صارخٌ في البرّيّة، وفي المدينة، وعلى السطوح، ووراء الأبواب المغلقة، وهذا هو شوقي أبي شقرا:
وفي “النهار”، حيث “الصفحة الثقافيّة”، أو “ص. ث”، لا فرق، ومعها مدرسة الحكمة، و”حلقة الثريّا”، ومجلّة “شعر”، و”الخميس”، ودواوين الشعر والنثر وقصيدة النثر، وها هي “أكياس الفقراء” (1959)، “خطوات الملك” (1960)، “ماء إلى حصان العائلة وحديقة القدّيسة منمن” (1962)، “سنجاب يقع من البرج” (1971)، “يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضًا” (1979)، “حيرتي جالسة تفّاحة على الطاولة” (1983)، “لا تأخذ تاج فتى الهيكل” (1992)، “صلاة الاشتياق على سرير الوحدة” (1995)، “ثياب سهرة الواحة والعشبة” (1998)، “سائق الأمس ينزل من العربة” (2000)، “نوتيّ مزدهر القوام” (2003)، “تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة” (2005)، “شوقي أبي شقرا يتذكّر” (2017)، “عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى” (2021)، و”أنتَ والأنملة تداعبان خصورهنّ” (2023)، والغلّة كثيرة، والوزنات هنّ الوزنات، والآتي سيأتي.
وصدِّقوني:
لم يسبق في العربيّة الحديثة كلّها أنّنا قرأنا سينما شعريّة “مكتوبة” للطفولة، كمثل السينما التي كتبها شوقي أبي شقرا بالحبر، واقتبسها من ذاته، وأعدّها بذاته، واختار أبطالها وشخصيّاتها، ومرّنهم، وأخرجها، ولا شريك له، وعُرِفتْ به، ولا تتكّرر. سينما من أوّلها إلى آخرها، لا مرجعيّة لها، وتكتشف، وتخترع، ومغمضة العينين، فكأنّها تنصنع في كلّ لحظة، وليس من ماضٍ لها، وهي بلا شاشة، وتتفتّح في عالم النوم، وفي عالم الحلم، وتنمو، وتختال، وترقص، وتتباهى، وتعرف أنْ تتواضع، وأنْ لا تتبهدل، أو تتشرشح، فتقيم مملكتها في اللغة، في الكتابة المحبّرة، آتيةً من عالمٍ يسبق الولادة، والذاكرة، ويتخطّاها.
وهي سينما الطفولة في أجيالها وأعمارها كافّةً، فلا هي مخصّصة للأطفال، إنّما للكلّ، ولا تقف عند عتبة، ولا عند فتوّةٍ ورجولةٍ وكهولةٍ وشيخوخةٍ، ولا هي قابلة للاضمحلال والأفول، لأنّها طفولةٌ. وإذا شبّتْ وكبرتْ، فلا تترهّل، ولا تمرض، ولا تموت بالسكتة القلبيّة، ولا بأيّ مرضٍ عضالٍ وفتّاك.
ومن شأنها أنْ تولد، ولا تكفّ. وباستمرار. وكأنّها لم تولد من قبل. فلا هي مستنسخة، ولا هي تعيد استنساخ نفسها.
وهي سينما الناس؛ الذين منهم الفقراء خصوصًا، وليس من بنطلونٍ أحمر يلبسونه في العيد.
وهي سينما الطبيعة، ولا تكتفي بالريف، كما يُشاع.
شوقي أبي شقرا. (منصور الهبر)
فها هو البحر، والسينما ها هي تمخره، وتسيطر عليه، وترقّصه، وتُسكِره، فيصاب بالدوار، وكالربّان هو يدير الدفّة، ويعرف الاتجاهات، ولا يخطئ الرسوّ، ولا يصطدم بالرصيف، ولا ينطح البرّ.
وها هي المدينة، وبيروت، فهل شاهدتم في السينما مدينةً كمثل مدائن شوقي، وعماراته، والنوافذ والشرفات، والكونتيسات، وسندريلا، والكندرة، والحفلات الراقصة، والكؤوس، والفساتين، والعطور، وأين منها الماركات العالميّة، وسواها، فسينماه تبطحها، فتفوح الرائحة الحلوة بين السطور، وتفوز بقصب السبق، وتكون الأولى بين متسابقين، ولا التصفيق يتوقّف، ووقوفًا للساحر.
وهي سينما الوادي والجبل والحقل والقرية، ورشميّا، ومزرعة الشوف، وبزيزا، وإهدن، والتفّاح، والحنبلاس، والصعتر، والتين، والعنب، والزنزلخت، وطربوش الراعي، والمنجيرة، وحليب السباع، والواوي. فلا سينما هناك إلّا تضيّع الشنكاش، وتتيه، وتدوخ في المتاهة، فلا تعرف العودة إلى المنزل، سوى سينما شوقي. فأيّ كلماتٍ وأيّ جملٍ تنزل إلى البئر، إلى أعماق الأعماق، تستقي الماء، وتستحمّ في العراء، وتحت القمر، وتحت الشمس، وتستدعي المجرّات، فها هي النجوم والكواكب تبصبص عليها، وتروح تصعد إلى المكمل والحرمون والصنّين والهملايا، فلا تُصاب بالإرهاق، ولا تشوّب، ولا تموت في الصقيع، وتروح تقطف الحيوانات، والفقمة، والنمور، ومجاهل أفريقيا، والغزلان، والماعز، والغنمات، ويهجم الذئب، والكلب يقوم إلى المواجهة، فلا يهرب القطيع، ولا تتشتّت الرعيّة، والسينما تستدعي السناجب، والبلابل، والدوريّ، وسهول القمح، والتوتة، والخرّوبة، والقندول، والعلّيق، والخيول، والقدّاس، والبخور، والعرس، والدبكة، وقانا الجليل، والحجارة تفرّ، وتتدركب، والغضب يفور، ثمّ يأتي الرواق، والهنيهة، والاستراحة، والقيلولة بعد العرق المتصبّب، ويحلّ الشعر.
لا أمدح شوقي أبي شقرا. إنّي فقط أُقِرُّ له، وبمكانته، وأضعه في الموضع الذي يناسب، بدون أيّ زيادةٍ، أو مبالغة. وإذا كانت السينما المعروفة تستولي على البصر، فسينما هذا الطفل الخيّال يجول في الينابيع، في الغابات، في المجاهل، في المتاهات، ويسرج لها الكلمات، من أعالي جبل لبنان إلى فقش الموج والميناء ورأس بيروت والمدينة جمعاء.
ومهلًا: أشعر في الذكرى السنويّة الأولى لغياب الشاعر شوقي أبي شقرا، أنّ من مسؤوليّاتي الأدبيّة والأخلاقيّة أنْ أطلق من بيروت النداء الآتي:
هذا شاعرٌ مستحقٌّ، فافتحوا الجامعات والمكتبات له، وأعِدّوا الكرسيّ الملائم لجلوسه، وهيِّئوا الدراسات عنه، والأبحاث، وانشروا أعماله الكاملة، ولا تُسَمّوا الشارع باسمه، وهو ليس في حاجةٍ إلى نيشان.
فهو مستحقٌّ بالحبر، بالكلمات، بالشعر، والقصيدة، والنثر، وقصيدة النثر، وبالقلم الذي يجرّه من قرنَيه، ولأنّه كالهمزة على الألف، وكالراعي الصالح قطيعُهُ الضمّة والفتحة والكسرة.
هل قلت سينما؟ نعم، وإلّا كيف تكتب الدولة أحمر: ولد الولد في 2971 ميلاديّة؟!
مَن له يُعطى ويُزاد!