بمجرد أن تقع عينك “عزيز القارئ “على عنوان المقال أو “عتبته” بلغة المتخصصين في الدراما، ستجد كلمة  ” سردية” متصدرة ، حينها تتذكر هذا المصطلح الذى طالما استخدمه صناع الدراما ونقادها على اعتباره أحد أهم المصطلحات الدرامية التي تشير إلى طريقة تقديم الحكاية أو  الحبكة من خلال سرد متسلسل للأحداث، وكلما كانت القصة متماسكة البنية ومتسلسلة بشكل منطقى ، كلما كانت السردية قوية وناجحة في  إقناع الجمهور.


بالتأكيد عزيز القارئ تسأل نفسك الأن ما فائدة كل هذه المقدمة التعريفية للسردية؟ وما علاقة مصطلح درامى بحت بالصهيونية؟، ولكن لا داعى للاندهاش وكن مستعداً لأننى سأستخدمها كثيرا خلال الأسطر التالية، فالسياسة أيضاً والأنظمة السياسية المعلن منها والسرى لها سرديات وحبكات وقصص قد تكون مختلقة أحياناً خاصة إذا كان الهدف غير نبيل، وأساطير مغزولة من خيال صناعها ، والجمهور هنا هو الرأي العام العالمى، لذلك تبنت الصهيونية منذ نشأتها سردية رئيسة وقصة وهمية عن البحث عن الحقوق والمساواة والتخلص من الاضطهاد، تخفى بين طياتها فصولاً من المؤامرات والمصالح والخطط السرية.


فمنذ أكذوبة بيع الفلسطينيين لأراضيهم وتملكهم لنسب كبيرة جداً من أراضي فلسطين بالقانون وبالرضاء المتبادل بين الطرفين، وحتى يوم 7 أكتوبر في عام 2023، ظلت تلك السردية الصهيونية في التضخم والامتلاء، وظل لعب دور الضحية والمجنى عليها هو الدور الأمثل الذى تجيده تلك المنظمة أمام المجتمع الدولى، وظل التعاطف الغربى مع تلك الأفكار هو السلاح في وجه الشرق الأوسط، وسلاح في وجه القضية الفلسطينية وكل متعاطف معها، فكان من العار أن تعلن أحد الدول الغربية دعمها لأبناء غزة خوفاً من الرأي العام العالمى.

وعلى مدار عشرات السنوات، تبدلت الأدوار وأصبح “الجانى” هو المجنى عليه والعكس صحيح،  ومن هنا اتخذت مصر وحدها  دور ” المثقف الفعال” الذى يحاول كسر ايهام العالم وكشف خداع تلك السردية حتى لا يتوحد الجمهور مع الحبكة ويؤمن بها ويصبح الانفصال عنها مستحيلاً.


فكان للدور المصرى مواقف تاريخية ومحاولات متعددة لإفاقة الضمير العربى والعالمى، ولعب الرئيس السيسي دوراً قياديا في تصحيح الصورة والمفاهيم وكشف نوايا التوسع التي لطالما حلم بها الصهاينة  ” من النيل للفراط” وظلت تسعى أجهزة الدولة ووزارة الخارجية دون توقف لتغير تلك النظرة  من التعاطف للاتهام،  حتى يوم 7 أكتوبر الذى اتخذت فيه تلك السردية الصهيونية منحنى درامياً أكثر تصاعدية، فجأ وقت ذروة الأحداث وأصبحت الحقوق التي حصلوا عليها من قبل غير كافية، والتوسع وتصفية القضية الفلسطينية بل وتصفية العرق الفلسطيني كان الخطوة الأولى نحو تحقيق خطتهم الكبرى، واتخذوا من التعاطف مرة أخرى غطاء لأعمالهم البشعة وخطياهم الإنسانية، فالهدف المعلن هنا هو القضاء على حماس والفصائل الإرهابية التي تعدت على إسرائيل وهددت أمنها وشعبها، وكالعادة استمر الدعم العالمى المصبوغ بالتعاطف في غير محله.


وانقسمت الأراء حينها بين داعم لإسرائيل وبين محرض لمصر على التدخل العسكرى لتخليص أبناء غزة، أو على الأقل فتح المعبر أمامهم للتهجير لانهاء  الأزمة، ووسط ضغط عالمى كبير لم تنصاع مصر وراء قبول التهجير ولم تندفع نحو حلول الحرب واستخدام القوة، وفى نفس الوقت لم تتراجع يوم عن معادة الفكر والخطط الصهيونية ودعم القضية الفلسطينية العربية، وحلت الحلول الدبلوماسية مكان السلاح، واتخذت من الحكمة وعدم التهور والتوعية والمناورات السياسية شعاراً للمرحلة التي من وجهة نظرى كانت مرحلة  ” تفكيك سردى” لهذا الوهم الصهيونى، وعلى سبيل التفكيك جاءت زيارة الرئيس الفرنسي  ” ماكرون” كواحدة من أهم الضربات القاتلة التي وجهتها مصر لتلك السردية، خاصة عندما رافقه الرئيس عبد الفتاح السيسى  في زيارة لمصابى غزة بمستشفى العريش، من أطفال ونساء ومسنين وكانت الزيارة على مرأى ومسمع العالم ونقلها الإعلام الغربى، لينقل جزء من حقيقة الوضع.


فكانت تلك هي الخطوة الأولى للإفصاح عن المجنى عليه الحقيقى، فما ذنب هؤلاء الأطفال والنساء والعزل؟ هل هؤلاء الضحايا هم ” حماس” التي تقصدها إسرائيل ؟ ، لذلك أرى أن التفكيك بدأ من تلك اللحظة، وخاصة بعد إعلان فرنسا عن تضامنها مع غزة والخروج عن الصمت وعن التهديد بالعار الذى يلحق الدول الأوربية في حالة دعم غزة ” الإرهابية” ضد إسرائيل الضحية، كما صدرتهما تلك السردية الصهونية الزائفة، وتوالت من بعد ذلك الاعترافات الرسمية بالدولة الفلسطينية في سابقة هي الأولى من نوعها ، وظل قناع الحمل الوديع الذى طالما صدره أبناء صهيون يتساقط، واستطاعت مصر أن تقدم سردية جديدة وبناء واقعياً  وليس درامياً  مخادعاً عن القضية الفلسطينية .


بالتأكيد إذا وصلت عزيزى القارئ إلى تلك الفقرة من المقال، ستقول أنه مقال منحاز للدور المصرى، خاصة وإن كنت من المقللين للجهود المصرية في تلك القضية أو بمعنى أصح من المنتمون لتلك الأفكار الإرهابية الداعمة للفكر الصهيوني، ومن مصلحتك أن يتضاءل الدور المصرى حتى يختفى صوت العقل والحكمة وتنجح سرديتك في ظل اختفاء الوعى.


لكن إذا كنت من هذه النوعية من القراء فأولاً لا يصح أن أصفك بـ”عزيزى” ثانياً كان من الممكن أن تشكك في هذا الدور قبل مؤتمر السلام التاريخى الذى احتضنته مدينة السلام  ” شرم الشيخ” والذى لولا الجهود المصرية ما تجمع زعماء وقادة العالم على رأى واحد وهو وقف اطلاق النار، والاعتراف بالدولة الفلسطينية،


هذا المؤتمر الذى لم يحضره ” نتنياهو” ولا ممثل للدولة الإسرائيلية، وكأن العالم يلفظ ما صنعته إسرائيل على مدار السنوات الماضية، وتحولت النظرة العالمية لهذا الكيان الصهيوني من التعاطف إلى التجاهل  .


لذلك من شرم الشيخ تهشمت تلك السردية الكاذبة التي طالما خدعت العالم وكسبت تعاطفه، واستطاعت مصر أن تفرض سرديتها ووجهة نظرها، وهذا ما يجب أن يعلمه المصريين ويفتخر به، ويدركه العرب ويدعموه ويساندوه، حتى نتمكن من اسقاط تلك السردية تماما، فأن تهشم شيء أو فكر أو تفسد خطة هذا لا يعنى رحيلها .


فإذا كانت تهشمت وكشفت الخدعة الصهيونية أمام العالم، هذا لا يعنى أنها سقطت، فربما تكون في مرحلة إعادة صياغة ، لخلق كذبة جديدة تستدرك تعاطف العالم مرة أخرى، لذلك عزيزى القارئ الوطنى يجب أن تظل واعياً داعماً لقيادتك واثقاً ومؤمناً بها، لأن السردية الصهيونية ربما تكون في مرحلة الصيانة وتطل على جمهورها ” المجتمع الدولى” متخفياً في دوراً جديد .