السؤال نفسه: من يحاكم من؟ الإنسانُ السلطة، أم السلطةُ الإنسان؟ تقاربه مسرحية “لا فاش” (البقرة) من إنتاج فرقة مسرح الحال، التي افتتحت بها موسمها المسرحي الجديد على خشبة مسرح محمد الخامس في الرباط الأسبوع الماضي. العرض الذي يقدّم تجربة عبثية وتجريبية مقتبس عن نص للكاتب عبده جلال، وإخراج عبد الكبير الركاكنة، حيث يحوّل الحدث البسيط، وهو فقدان بقرة مستوردة، إلى مختبر اجتماعي يكشف تناقضات السلطة والمجتمع، ويبرز عمق العبث الكامن خلف المظاهر اليومية.

في حديثه لـ”العربي الجديد”، يقول الركاكنة “اشتغلت على نقل الأحاسيس الإنسانية للشخصيات. الخشبة ليست مجرد فضاء للفرجة، بل مساحة للتجربة النفسية، حيث يصبح جسد الممثل وأداؤه مرآة للواقع الاجتماعي. فضّلت الاهتمام بالملابس والتعبيرات بدل التركيز على الأكسسوارات على الخشبة، ذلك أن قوة المشهد تنبع من حضور الإنسان أكثر من غيره”.

في مكتب التحقيق، يعترف “بناقص” الذي، (جسد دوره بوشعيب العمراني) بعدما تعرض لأشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي بسرقة البقرة، ويكشف التقرير الطبي أن البقرة حامل منه. هذا الحدث العبثي يعيد رسم العلاقات بين الشخصيات على مستويات عمودية وأفقية ومتوازية، لتظهر تناقضاتها، جشعها، وخوفها من العقاب. المسرحية تتجاوز الحادث السطحي لتصبح فضاءً لكشف المصلحة المشبوهة، الأنانية والفساد الاجتماعي، حيث تتحول البقرة إلى استعارة للجسد المنتهك والعدالة المزيفة.

الإخراج التجريبي للركاكنة يراهن على الفراغ المدروس، أرضية سوداء وكرسيٍ واحد يتحول بحسب السياق إلى منصة استجواب أو كرسي اعتراف، أو علامة على هشاشة السلطة. الأغنية، التي لحّنها وغناها حسن شيكار برفقة المجموعة الفنية لـ”لا فاش” ومحمد كبي، تؤدى في خلفية المشهد المسلّط الضوء عليه، لتزيد من عمق السخرية السوداء وتأكيد التناقض في الوهم الجمعي وبين الوهم الجمعي والواقع، وتصبح تعليقاً موسيقياً على العبث الاجتماعي. كما تحمل الأغنية نصاً يوحي بأن الحرية مجرد وهم في هذه الأرض، وأن ما يُعرف بالمجتمع الحر، ما هو إلا لعبة من الأوهام تفرضها السلطة وتقبلها العادة.

يُبرز حدث بسيط عمق العبث الكامن خلف المظاهر اليومية
 

التجربة الفنية لا تنحصر في أداء الممثلين وحده، بل تتكامل مع كل عناصر الفريق لتصبح كل حركة، كل صوت وكل ظلّ أداة كشف للواقع. عزيزة الركاكنة في إدارة الإنتاج وتصميم الملابس سعت لتحويل الملبس إلى امتداد للشخصية وحالة الصراع الداخلي، بينما أشرف إسماعيل معروف على المؤثرات الصوتية والفيديو، ما أضفى على المشهد كثافة درامية، جعلت الصمت يحمل معنى. أسامة لوزاري وعبد الله شلفي صاغا المشهد البصري، الذي امتد إلى الجمهور أيضاً، باعتباره “أحد شخوص المسرحية، حين توجه نحوه الإضاءة بين حين وآخر”. وقد اهتم خالد الركاكنة بإدارة الخشبة، محاولاً خلق مساحات حركة متناغمة. كل التفاصيل سعت لجعل المسرحية مختبراً اجتماعياً، حيث تُعرّى السلطة وتُكشف المظلومية.

“لا فاش” لا يمكن حصرها في حكاية عن حيوان مفقود، إنها حكاية عن إنسان ضائع في لعبة السلطة. البقرة تتحول إلى استعارة للجسد المنتهك والبراءة المسلوبة، والحاج (أحد أعيان البلد) نموذج للسلطة التي تُرتكب باسمها الجرائم ويُدان بدلاً منها الضحايا بينما يبقى الجاني الحقيقي بعيداً عن المحاسبة.

لا المكان ولا الزمان محددان في النص، مما يمنح المسرحية بعداً أوسع يتجاوز الحدود الجغرافية، ليصبح نموذجاً درامياً للسلطة المستبدة والمجتمع المتواطئ؛ فضاء لمساءلة الأخلاق والسلطة، حيث يتعدى الفن كونه فرجة إلى مقاومة جمالية للانتهاك الاجتماعي والمعنوي.