في مناسبة مئوية ولادة الموسيقي اللبناني توفيق الباشا (1924 – 2005)، أصدر الأب بديع الحاج، العميد السابق لكلية الموسيقى في جامعة الروح القدس – الكسليك، كتاباً بحثياً بعنوان “توفيق الباشا، رحلته إلى العالمية” عن منشورات الجامعة نفسها، في محاولة لتوثيق مسيرة أحد أبرز المبدعين في تاريخ الموسيقى اللبنانية والعربية، وتسليط الضوء على قيمته الفنية العالية وقدرته على تطوير العلوم الموسيقية نحو آفاق عالمية لم تنل بعد ما تستحقه من تقدير.
يقول الأب بديع الحاج لـ”العربي الجديد” إن الكتاب “محاولة لتوثيق مسيرة فنان استثنائي في تاريخ الموسيقى اللبنانية والعربية”، موضحاً أنه يستند إلى مصادر موثوقة، بينها أرشيف توفيق الباشا الشخصي ومذكراته الخاصة وحواراته الصحافية والإذاعية. ويتناول العمل إسهامات الباشا في التأليف الموسيقي، وجهوده في نشر الموسيقى العربية على المسارح العالمية، ودوره في إعادة إحياء التراث الموسيقي بأسلوب علمي حديث يجمع بين الأصالة والابتكار. ويضيف الحاج أن الكتاب “ليس سيرة ذاتية فقط، بل شهادة على مرحلة مهمة من تاريخ الموسيقى العربية”، إذ يسعى إلى فهم كيف يمكن لهذا الفن أن يتطور دون أن يفقد جوهره. وكما كان الباشا مؤمناً بقدرة الموسيقى العربية على الوصول إلى العالمية، فإن هذا الكتاب يؤكد أن التراث الموسيقي العربي قادر على التجدد والبقاء، طالما هناك من يسعى إلى تطويره بحكمة وشغف.
وحول سبل تعريف الجيل الجديد بتجربة الباشا، يرى الحاج أن “المنصات الرقمية هي الأداة الأنجع لإحياء إرثه”، عبر نشر مقاطع موسيقية نادرة وتسجيلات من أعماله، إلى جانب مواد بصرية مختصرة تروي محطات من حياته بلغة معاصرة. كما يشير إلى أهمية المقابلات الإذاعية التي سجّلها الباشا بنفسه، والتي تضمّ تعريفات بالموسيقى العربية وتاريخها وقواعدها وقوالبها.
ويرى أن غياب التقدير الكافي لتوفيق الباشا في وطنه الأم يعود جزئياً إلى ابتعاده عن الأضواء وانصرافه إلى العمل الفني الجاد بعيداً عن صخب الإعلام، إضافة إلى أن مؤلفاته كانت تتطلب أوركسترات محترفة تجمع بين الآلات الشرقية والغربية، وهو ما كان شبه مستحيل في لبنان خلال الحرب وأزماتها المتلاحقة. كما أن الطابع الجاد لموسيقاه، سواء في الأغاني أو القصائد أو الموشحات، لم يكن منسجماً مع الذوق العام آنذاك، فضلاً عن تركيزه على تلحين النصوص الفصحى أكثر من العامية، ما جعل أعماله أقل انتشاراً شعبياً. ويستذكر الحاج أن توفيق الباشا كان ميالاً منذ بداياته إلى الموسيقى الآلية أكثر من الغنائية، مدركاً أن هذا اللون لا يحظى بجمهور واسع في العالم العربي، لكنه بقي وفياً لقناعاته الفنية.
ويتوقف عند خصوصية عمله الكبير “الإنشادية النبوية”، المأخوذ من قصيدتين لأحمد شوقي في مدح النبي، معتبراً أنها تمثل ذروة نضجه الفني، إذ جمع فيها بين النص الشعري الكلاسيكي والصياغة الموسيقية الغربية دون أن يتخلى عن روح المشرق وأصالته. وقد منح الباشا هذا العمل بعداً روحانياً عالمياً من خلال التوزيع الأوركسترالي الرفيع واعتماده على الجوقة، رافعاً إياه إلى مصاف الأعمال الكبرى في الموسيقى العالمية. ويصف الحاج هذه الإنشادية بأنها “كشفت عن قدرة الباشا على التعامل مع النصوص التراثية بروح معاصرة وبناء درامي متكامل”، إذ صاغها في قالب الأوراتوريو العالمي حيث تمتزج جماليات التأليف الغربي بروح الموسيقى العربية، مع تنويع دقيق في الألوان الصوتية والتوزيع الأوركسترالي.
ويكشف الحاج عن خطة لإطلاق الكتاب عبر سلسلة ندوات وعروض سمعية–بصرية تتضمن محاضرات ومقاطع مختارة من مؤلفات الباشا وصوراً ووثائق أرشيفية نادرة تُعرض في سياقها التاريخي، إلى جانب تعاون مع جامعات ومعاهد موسيقية ومؤسسات ثقافية لتنظيم أمسيات تكرّمه، يُنفَّذ خلالها عدد من أعماله في حفلات حيّة ترافقها عروض بصرية وفيلم وثائقي عن حياته، في مئوية فنانٍ رسّخ اسمه في ذاكرة الموسيقى العربية والعالمية.