“انقلوا فرح الإنجيل بتواضع وقناعة. ابقوا متأملين في العمل، متجذرين في العلاقة اليومية الحميمة مع المسيح، لأنهم وحدهم القريبين منه يمكنهم أن يقودوا الآخرين إليه” هذا ما قاله قداسة البابا لاوُن الرابع عشر في كلمته إلى المشاركين في الاجتماع الثالث للرؤساء الإقليميين في جمعيّة يسوع
استقبل قداسة البابا لاوُن الرابع عشر ظهر اليوم الجمعة في القصر الرسولي بالفاتيكان المشاركين في الاجتماع الثالث للرؤساء الإقليميين في جمعيّة يسوع وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة رحَّب بها بضيوفه وقال أرحب بكم جميعًا في الفاتيكان هذا الصباح وأشكركم على حضوركم. وأشكر بشكل خاص رئيسكم العام على كلماته الطيبة. وأدعو الله أن يكون اجتماعكم مثمرًا، وأن يثبتكم الروح القدس من خلاله في دعوتكم ويساعد أعضاء جمعية يسوع على تمييز طرق جديدة للعيش في عالم اليوم. نحن نعيش في ما يصفه الكثيرون بتحول عصري، عصر مطبوع بتغيرات سريعة في الثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة. وبشكل خاص يعيد الذكاء الاصطناعي والابتكارات الأخرى تشكيل فهمنا للعمل والعلاقات، بل ويثير تساؤلات حول الهوية البشرية. ويهدد التدهور البيئي بيتنا المشترك. وغالبًا ما تفشل الأنظمة السياسية في الاستجابة لصرخات الفقراء. وتؤدي الشعبوية والاستقطاب الأيديولوجي إلى تعميق الانقسامات داخل الدول وفيما بينها. كما يتأثر الكثيرون بالاستهلاكية والفردية واللامبالاة.
تابع الأب الأقدس يقول ومع ذلك، لا يزال المسيح يرسل تلاميذه إلى هذا العالم. لطالما كانت جمعية يسوع حاضرة حيث تلتقي احتياجات البشرية مع محبة الله المخلصة: من خلال الإرشاد الروحي والتنشئة الفكريّة والخدمة بين الفقراء والشهادة المسيحية على الحدود الثقافية. لم يخشَ القديس إغناطيوس دي لويولا ورفاقه عدم اليقين أو الصعوبات؛ بل ذهبوا إلى الأطراف، حيث التقى الإيمان والعقل بثقافات جديدة وتحديات كبيرة. في الواقع، قال القديس بولس السادس: “أينما كان في الكنيسة، حتى في أصعب المجالات وأكثرها تطرفًا، عند مفترق طرق الأيديولوجيات… كان هناك يسوعيين، ولا يزالون”. وعلى نفس المنوال، دعا البابا بندكتس السادس عشر إلى وجود رجال “ذوي إيمان عميق وثقافة سليمة وحساسية إنسانية واجتماعية حقيقية” لخدمة هذه “الحدود”، وإظهار الانسجام بين الإيمان والعقل، وكشف وجه المسيح للذين لم يعرفوه بعد. واليوم، أكرر: الكنيسة بحاجة إليكم على الحدود – سواء كانت جغرافية أو ثقافية أو فكرية أو روحية. إنها أماكن محفوفة بالمخاطر، حيث لم تعد الخرائط المألوفة كافية. هناك، مثل إغناطيوس والشهداء اليسوعيين الذين تبعوه، أنتم مدعوون إلى التمييز والابتكار والثقة في المسيح، ولكي تشُدُّوا أَوساطَكم بِالحَقّ وتلبَسوا دِرْعَ البِرّ وتشُدُّوا أَقْدامَكم بالنَّشاطِ لإِعلانِ بِشارةِ السَّلام. عندما يقود الروح الجسد الرسولي إلى مكان آخر من أجل خير أعظم، قد يتطلب ذلك التخلي عن هيكليات أو أدوار عزيزة لزمن طويل — ممارسة “اللامبالاة المقدسة” الإغناطية.
أضاف الحبر الأعظم يقول إنَّ أحد الحدود الرئيسية اليوم هو مسار السينودسيّة داخل الكنيسة. تدعونا المسيرة السينودسيّة جميعًا إلى الاصغاء بعمق أكبر إلى الروح القدس وإلى بعضنا البعض، لكي تصبح هيكلياتنا وخدماتنا أكثر مرونة وشفافية واستجابة للإنجيل. أشكركم على مساهماتكم في العملية السينودسيّة، لاسيما في مساعدة الجماعات الكنسية على تمييز كيفية السير معًا في الرجاء. جبهة أساسية أخرى تكمن في المصالحة والعدالة، لاسيما في عالم ممزق بالصراعات واللامساواة والإساءات. اليوم، يعاني الكثيرون من الإقصاء، ولا تزال هناك جروح لم تلتئم عبر الأجيال والشعوب. وكما فكرتُ مؤخرًا عندما تذكرت زيارة سلفي الموقر إلى لامبيدوزا، يجب أن نواجه “عولمة العجز” بثقافة المصالحة – أن نلتقي ببعضنا البعض في الحقيقة والمغفرة والشفاء؛ علينا أن نصبح خبراء في المصالحة، واثقين من أن الخير هو أقوى من الشر.
تابع الأب الأقدس يقول كذلك تشكّل التكنولوجيا، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، أيضًا حدودًا مهمة. فهي تنطوي على إمكانات لازدهار البشرية، ولكنها تنطوي أيضًا على مخاطر العزلة وفقدان العمل وأشكال جديدة من التلاعب. يجب على الكنيسة أن تساعد في توجيه هذه التطورات من الناحية الأخلاقية، والدفاع عن كرامة الإنسان وتعزيز الخير العام. نحن بحاجة لكي نميِّز كيفية استخدام المنصات الرقمية للبشارة، وتنشئة الجماعات، وتحدي الآلهة الزائفة للاستهلاك والسلطة والاكتفاء الذاتي. إن التفضيلات الرسولية العالمية للجمعية، التي أكدها البابا فرنسيس في عام ٢٠١٩ كمسارات متميزة للرسالة، هي بالتأكيد مجالات تتطلب التمييز والشجاعة. إن تفضيلكم الأول – إظهار الدرب إلى الله من خلال الرياضات الروحية والتمييز – يستجيب للرغبة العميقة في قلب الإنسان. في كل قارة، حتى في المجتمعات العلمانية، يبحث الكثيرون عن المعنى، غالبًا دون أن يدركوا ذلك. كما قال القديس أوغسطينوس “لقد خلقتنا لك، يا رب، وقلوبنا لن ترتاح إلى أن تستقر فيك”. أشجعكم على لقاء الناس في ذلك القلق: في مراكز الرياضات الروحيّة، والجامعات، ووسائل التواصل الاجتماعي، والرعايا، والأماكن غير الرسمية التي يجتمع فيها الباحثون. انقلوا فرح الإنجيل بتواضع وقناعة. ابقوا متأملين في العمل، متجذرين في العلاقة اليومية الحميمة مع المسيح، لأنهم وحدهم القريبين منه يمكنهم أن يقودوا الآخرين إليه.
أضاف الحبر الأعظم يقول يدعوكم تفضيلكم الثاني إلى السير مع الفقراء، ومنبوذي العالم، والذين انتُهكت كرامتهم. كثيرون اليوم هم ضحايا نظام اقتصادي يحركه الربح فوق كرامة الإنسان. في الإرشاد الرسولي الأخير، Dilexi Te، شددت على ضرورة مواجهة “ديكتاتورية اقتصاد يقتل”، تزداد فيه ثروة القلة بشكل كبير بينما تُترك الغالبية في الخلف. هذا الاختلال العالمي يدفع عددًا لا يحصى من الناس إلى الهجرة بحثًا عن البقاء على قيد الحياة. فيتركون ديارهم وثقافتهم وعائلاتهم، وغالبًا ما يواجهون الرفض والعداء. إنَّ التتلمذ الحقيقي يتطلب إدانة الظلم واقتراح نماذج جديدة متجذرة في التضامن والخير العام. في هذا الصدد، يمكن لجامعاتكم ومراكزكم الاجتماعية ومنشوراتكم ومؤسساتكم، مثل الهيئة اليسوعية لخدمة اللاجئين، أن تكون قنوات قوية لتعزيز التغيير المنهجي. على الرغم من العقبات أو الإخفاقات التي قد نواجهها أحيانًا في أداء هذه الخدمة، علينا أن نتجنب الاستسلام للمرارة أو الوقوع في “إرهاق الشفقة” أو القدرية. بل يجب أن نثق في القوة المحوِّلة لمحبة الله، مثل حبة الخردل التي تصبح شجرة كبيرة.
تابع الأب الأقدس يقول أما تفضيلكم الثالث – مرافقة الشباب نحو مستقبل مليء بالرجاء – فهو أمر ملح. إنَّ شباب اليوم متنوعون: طلاب، مهاجرون، ناشطون، رجال أعمال، مكرّسون، ومهمشون. وعلى الرغم من تنوعهم، هم يتشاركون في التوق إلى الأصالة والتحول. إنهم “في حالة حركة”، يبحثون عن المعنى والعدالة. على الكنيسة أن تجد لغتهم وتتحدثها — من خلال الأفعال والحضور وكذلك الكلمات. ونتيجة لذلك، من المهم توفير فسحات يمكنهم فيها أن يلتقوا بالمسيح ويكتشفوا دعوتهم ويعملوا من أجل الملكوت. وبالتالي سيكون اليوم العالمي للشباب القادم في كوريا لحظة حاسمة لهذه المهمة.
أضاف الحبر الأعظم يقول أما تفضيلكم الرابع، وهو الاهتمام ببيتنا المشترك، فيستجيب لصرخة إنسانية وإلهية في آن واحد. كما أكد البابا فرنسيس في رسالته العامة “كُن مُسبَّحًا”، “إنَّ الشباب يطالبون بالتغيير. يتساءلون كيف يمكن لأحد أن يدعي أنه يبني مستقبلًا أفضل بدون أن يفكّر في الأزمة البيئية”. إن الارتداد الإيكولوجي هو ارتداد روحي عميق؛ إنه يتعلق بتجديد علاقتنا بالله، وببعضنا البعض، وبالخليقة. وفي هذا الجهد، التعاون المتواضع هو أمر جوهري، مع الاعتراف بأن لا يمكن لمؤسسة واحدة أن تواجه هذا التحدي بمفردها. لتكن إذًا جماعاتكم أمثلة للاستدامة البيئية والبساطة والامتنان لنعم الله.
تابع الأب الأقدس يقول إن الحاجة الملحة إلى إعلان الإنجيل اليوم لا تقل عن الحاجة في زمن القديس إغناطيوس. يقول الرب من خلال النبي أشعيا: “هاءنذا آتي بالجديد ولقد نبت الآن أفلا تعرفونه؟”. مهمتكم، أيها الإخوة الأعزاء، هي أن تساعدوا العالم على إدراك هذه الحداثة – أن تزرعوا الرجاء حيث يبدو اليأس سائدًا، وتحملوا النور حيث تسود الظلمة. لتحقيق ذلك، أشجعكم على البقاء قريبين من يسوع. كما يخبرنا الإنجيل، بقي التلاميذ الأوائل معه “طوال اليوم”. ابقوا معه من خلال الصلاة الخاصة، والاحتفال بالأسرار المقدسة، والتعبُّد لقلبه الأقدس، والسجود للقربان الأقدس. بطريقة مختلفة ولكنها لا تبقى قوية، ابقوا معه من خلال الاعتراف بحضوره في حياة الجماعة. من هذا التجذر، ستكون لديكم الشجاعة لتسيروا في أي مكان: لقول الحقيقة، والمصالحة، والشفاء، والعمل من أجل العدالة، وتحرير الأسرى. لن تكون هناك حدود بعيدة عن متناولكم إذا سرتم مع المسيح.
وختم البابا لاوُن الرابع عشر كلمته بالقول آمل أن تتمكنوا في جمعية يسوع من قراءة علامات الأزمنة بعمق روحي؛ وأن تتبنوا ما يعزز كرامة الإنسان وترفضوا ما يقلل منها؛ وأن تكونوا مرنين ومبدعين وتتقنوا التمييز وتكونوا في رسالة على الدوام – “في طور التنشئة”، كما قال البابا فرنسيس في آخر جمعية عامة لكم. ليرشدكم الرب إلى حدود اليوم وما بعدها، من خلال تجديد الكنيسة وبناء ملكوت العدل والمحبة والحقيقة. مع امتناني لخدمتكم، أمنحكم فيض البركة الرسولية.
