تتشكّل مادّة الكتاب (650 صفحة) من مجموعة من النصوص والقصائد والشهادات والمقالات منشورة في عدد من الصحف والمجلات، ومجموعة قصائد نثرية، ومجموعة كلمات رثاء كتبها الشاعر لـينام الراقدون من الأصدقاء الذين يربو عددهم على المائة، في مختلف حقول الفكر والأدب والفن.

وبذلك، نكون إزاء ثلاثة كتب في كتاب واحد، تتجاور فيه المقالة والقصيدة والنص الإخواني والرسالة والتقديم والمقابلة وغيرها من الأنواع الأدبية، وشوقي أبي شقرا، في هذه الأنواع جميعها، فريد نصّه ونسيج وحده، لا يقلِّد ولا يقلَّد، يختلف عن الآخرين في المعجم والتركيب، فهو، في الشعر والنثر، بلا آباء ولا أبناء، لم يقلّد أحداً ولم ينجح أحدٌ في تقليده، وهو ما يؤكّده الكتاب موضوع هذه القراءة.

غرابة وطرافة

في العنوان، لا يشذّ أبي شقرا في “حتى ينام الراقدون نتسامر نحن والفرقد والشمعة ابنة الأرض” عن نهجه في العنونة، من حيث توخّي الغرابة والطرافة والشعرية في عناوين كتبه، فيشكّل العنوان الصدمة الأولى للمتلقّي التي تمهّد لصدمات أخرى يتكفّل المتن بإحداثها، وحسبنا في هذا السياق الإشارة إلى “أنت والأنملة تداعبان خصورهن”، “حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة”، “يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً”، “ثياب السهرة الواحة والعشبة”، “عندنا الآهة والأغنية والمطرب الصدى”، وغيرها.

وعليه، يشكّل العنوان الجديد حلقة في هذه السلسلة من العناوين الغريبة، الطريفة، التي تنزاح بالكلمات عمّا وُضعت له في الأصل، وبتفكيكه، نخلص إلى أنه يتألّف من غاية غريبة هي نوم الراقدين، فهل الراقدون بحاجة إلى نوم؟ ومن وسيلة مألوفة لتحقيق الغاية هي السمر، ومن أدوات متضادّة يُعتبَر الجمع بينها من الغرابة بمكان، هي الإنسان والنجم والشمعة، فكيف إذا ما انخرطت مجتمعة في عملية التسامر؟.

مروحة واسعة

في المتن، يمكن الكلام على ثلاثة أنواع من النصوص في الكتاب، المقالات العامة، وتشغل نصف الكتاب، كلمات الرثاء، وتشغل حوالى النصف الآخر، قصائد النثر الـ11 وتتغلغل بين المقالات، ناهيك بمقتطفات من الآخرين ومن الشاعر يذيّل بها الكتاب.

أمّا المقالات العامة فتتوزّع على مروحة واسعة من المواضيع، وتراوح ما بين الأدبي والشعري والفني والنقدي واللغوي والثقافي والفكري والاجتماعي والإخواني والوطني وغيرها، وعلى سعة هذه المروحة واختلاف مواضيعها، فإن طريقة أبي شقرا في التعبير عنها واحدة لا تتغيّر، إنّها أسلوبه الذي عرف به وبصمته النصّية التي يُمكن تمييزها بين عشرات البصمات، ولغته المفارقة معجماً وتراكيب.

لذلك، نراه يستخدم الأسلوب المداور في تراكيبه، ويقلع مفرداته من مقالع الضيعة والطبيعة، ويعبّر عن الأفكار بالصور، ويستخدم أدوات البلاغة بحسبان، ويهتم بكيفية القول أكثر من ماهيّته، فيقول ولا يقول، وينجم عن هذه العمليات مجتمعة نصٌّ مختلف عن المألوف، ينتسب إليه أباً حصرياً، ولا يحتمل تعدّد الآباء.

فرادة وتفرّد

وإذا كان المقام لا يتّسع للإلمام بجميع نصوص النصف الأول من الكتاب التي تربو على الـ80 نصاًّ، فحسبنا الإشارة إلى بعضها، لعل البعض يغني عن الكل، للدلالة على فرادة الشاعر النصّية وتفرّده الأسلوبي، ففي معرض تقديمه الشاعرة هدى النعماني، ذات أمسية شعرية، يُحوّل التقديم من نقد أدبي، وهو ما ينبغي أن يكون، إلى أدب نقدي، وهو ما كان بالفعل، فيصف عودتها من الغوص على اللغة العربية بالقول “… وتغوص ومعها، حين الخروج من المياه، أساور كالتي على ساعديها، وأنواع من المعادن التي تمتلئ أصابعها بهن” (ص 19).

وفي معرض كلامه على الشاعر صلاح ستيتيه، يقول “صلاح ستيتيه كالسفينة يتجه بالشراع المفتوح إلى المساحة الخلابة، إلى أزرق شفاف في كثافته، في أنغامه الطريفة، وفي علاقاته القائمة على السكون والصمت” (ص 27). وهكذا، يصوغ أبي شقرا أحكامه النقدية على شكل صور، توحي قبل أن تقول، وتؤثّر قبل أن تقرّر.

وهو قد يزاوج بين المعجمين، الإنساني والطبيعي، في النقد، فيصف كلمات الشاعر جورج شحادة “باللسعات الفكاهية، وبالمداعبات الغافية على الزهو والبسمة، والنطناطة أحياناً من حقل فكرة إلى بستان صورة، إلى علّيقات من الأحداث والتشابكات والأقوال التي تصبّ في مصبّها الإنساني” (ص 15).

شذرات ذاتية

ولئن كانت مقالاته تدور حول الآخرين من الكتّاب والأدباء والشعراء والأصدقاء، فإن الشاعر عرف كيف يدسّ فيها شذرات من سيرته الذاتية والثقافية، تدخل في نسيج المقالة دون أن تبدو مقحمة عليه، فنتعرّف، في هذا السياق، إلى دوره في تأسيس حلقة الثريا مع إدمون رزق وميشال نعمة وجورج غانم، وانخراطه في مجلة شعر مع يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وغيرهم، وفهمه الخاص للحداثة ونزوعه إلى المغامرة والتجريب والخروج على المواضعات الشعرية، وانحيازه للأشجار والعصافير والطبيعة في مواجهة الباطون وفوضى العمران الناجمة عن جشع البشر، وسعادته بتلبية نداء الكتاب لنفض الغبار عنه واصطحابه في رحلة إلى الجبل أو البحر، وغيرها. وإذا كانت العادة، في مهنة الكتابة، قد درجت على تخصيص مقالة لكل شخصية، فإن شوقي أبي شقرا، على التزامه بها، يخرج على هذا التخصيص في بعض المقالات، ويجمع بين عدد كبير من الشخصيات في مقالة واحدة متوقّفاً عند ميزة كلٍّ منهم، مما يعكس قدرته على التكثيف، فيشير في نص “العزلة والحرية” إلى انكماش يوسف الخال، ورقّة أدفيك شيبوب، ووهج محمد علي شمس الدين، واندفاع عباس بيضون، وكشف صباح زوين، ونكهة جواد صيداوي، وعزلة أنسي الحاج وعقل العويط وعبده وازن، واختلاف بول شاوول، ولمعة لامع الحر، وخُيلاء أسعد جوان، وإخلاص سليمان بختي، وغيرهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أمّا كلمات الرثاء فتشغل النصف الثاني من الكتاب، ويرثي فيها أبي شقرا أو ينعى ما يربو على مائة شخصية، خلال نصف قرن، من العاملين في مختلف حقول المعرفة والفكر والإبداع، وأوّل الراقدين بينهم هو الشاعر توفيق صايغ عام 1971، وآخرهم الشاعرة عناية جابر عام 2021.

وإذا كان الرثاء في الأدب العربي يتناول حسنات المرثيّ وميزاته، فإن أبي شقرا يتعدّى ذلك، في كثير من نصوصه، ليذكر شذرات من علاقته به، وشيئاً من سيرة المرثي الذاتية والمهنية، ودوره في حقله المعرفي، ولعل ما يميّز نصوص الرثاء في النصف الثاني من الكتاب عن سائر النصوص الواردة في الأوّل هو تعدّد مستوياتها اللغوية، ففي حين يستخدم في الأوّل اللغة المداورة ذات المعجم الأليف والتراكيب الغريبة، فإنه يستخدم في الثاني لغة متعددة المستويات، تراوح ما بين اللغة المباشرة في النصوص القديمة واللغة المداورة في النصوص الجديدة وما بينهما في النصوص المتوسّطة.

علامات فارقة

وإذا كان من الصعوبة بمكان الإحاطة بالصفات الكثيرة المختلفة الواردة في النصوص للراقدين، فإننا سنكتفي باستلال كلمات أو عبارات قصيرة، وردت في العناوين أو المتون، وتشكّل علامات فارقة للشخصيات المرثية، فأبي شقرا يصف ميشال أسمر بأنه مؤسّسة، وفؤاد أفرام البستاني بالنهضوي، وبولس سلامة بذي اللب السندياني، وأنطوان غطاس كرم بذي الكلمة الحية، وميخائيل نعيمة بالقبطان المفكّر، وسعيد عقل بالأيقونة، وميشال بصبوص بالمنحوتة، وأمين نخلة بورقة الدلب، وخليل تقي الدين بنكهة فريدة من خوابي الشوف، ويوسف الخال ببئر تسبح فيها عيناك وذهنك، وصلاح عبدالصبور بزورق في نيله، وبدر شاكر السياب بإنسان جيكور، وعبدالوهاب البياتي بنغم عراقي، وجوزاف صايغ بعنصر شامخ، على سبيل المثال لا الحصر، مما يعكس وفاء أبي شقرا لأصدقائه الراقدين، فيروح يتسامر مع الفرقد والشمعة ابنة الأرض حتى يناموا.