ذات يوم، قال الكبير الياس خوري إنّ إحدى إشكاليّات الثقافة في العالم العربيّ تكمن في أنّ المعايير التي تحدّد ماهيّة هذه الثقافة ومعناها باتت لا تُصنع في القاهرة وبيروت وبغداد وتونس والرباط، بل في باريس ولندن وبرلين ونيويورك وبوسطن. لا ريب في أنّ الواقع الذي تشي به ملاحظة ابن الخوري يرتبط، بمعنًى ما، بظاهرة العولمة ذات الطابع الغربيّ. لو يكن الأمر كذلك، كيف نفسّر إقبال الصينيّين واليابانيّين والكوريّين على الموسيقى الكلاسيكيّة الأوروبيّة، حتّى إنّك تجدهم ينافسون الألمان والإنكليز والفرنسيّين في أرفع أوركسترات العالم قيادةً وعزفاً؟ لكنّ ما يومئ إليه الروائيّ اللبنانيّ يتّصل أيضاً بكون الغرب يكاد يقبض على ناصية النموذج الثقافيّ منذ حوالي خمسمائة من السنين، أي منذ عصر النهضة المنطلقة من إيطاليا. ومن ثمّ، نجد، مثلاً، أنّ الإنتاج الأدبيّ الذي يحظى بأعلى نسبة من التلقّف في العالم العربيّ ذاته هو إيّاه الذي انتبه له الغربيّون، واهتمّوا به، وترجموه إلى لغاتهم. في هذا الصدد، كان الكاتب المغربيّ محمّد شكري يروي، من باب الطرفة، أنّ الروائيّ والناشر اللبنانيّ سهيل إدريس ظلّ على رفضه نشر سيرته الذاتيّة «الخبز الحافي» في «دار الآداب»، طالباً إجراء تعديلات على بعض مقاطعها الجنسيّة السافرة، إلى أن احتفى بها الفرنسيّون عبر ترجمتها إلى لغة راسين وفيكتور هوغو. فاقتنع إدريس ونشرها كما هي.
محمد شكري
كان صاحب «باب الشمس» يرى أنّ هذه الظاهرة تحيل على انحراف ما، إذ من غير الصحّيّ أن يقع مركز ثقل الثقافة العربيّة خارجها، بحيث يقرّر «المستشرقون» ما هو الغثّ وما هو الثمين في ثقافتنا. لئن ينطوي رأي ابن الخوري على كثير من الصواب، إلّا أنّه ينبغي التمييز بين الشقّ العلميّ والشقّ الفنّيّ. العلوم الحديثة، سواء الطبيعيّة أو الإنسانيّة، لها «لغة» واحدة. ولا يسعنا الإنكار أنّ هذه اللغة وضع الغرب مداميكها وطوّر مناهجها. فإذا أراد الدارس أن يكون إنتاجه علميّاً بالفعل، أي قابلاً للتلقّف وقادراً على المنافسة، لا بدّ له من مراعاة هذه المداميك والمناهج، وذلك بقطع النظر عن المكان الذي يشتغل فيه، وحتّى لو استنجد بلغة غير الإنكليزيّة لنقل أفكاره وتبليغ نتائج بحوثه. بيد أنّ هذه الملاحظة لا تنسحب على الإنتاج الفنّيّ. ثمّة، طبعاً، ضرورة أن يعبّ الفنّان من كلّ ما أبدعه البشر من فنون، بما فيه ما تمخّضت به قريحة أهل الغرب. لكنّ قاعدة الإبداع الأساسيّة تتلخّص في أنّه يتخطّى القواعد جميعها ويتحدّى المعايير طرّاً. وحكاية الفنّ الحديث من ميكالانجلو إلى آخر قفزة من قفزات مصمّمي الأزياء لا يمكن قراءتها من دون أخذ هذا التحدّي في الحسبان بوصفه ديدن الحراك الفنّيّ وقاعدته. ملاحظة الياس خوري تحيل، إذاً، على جنوح الغرب، بفعل تفوّقه الاجتماعيّ والاقتصاديّ، إلى إضفاء صفة معياريّة على المقاربة الثقافيّة الخاصّة به، متّخذاً إيّاها منطلقاً لغربلة الإنتاج الثقافيّ المتشكّل خارج «أسواره»، إذا جاز القول.
سيد درويش
لا يندر أن يقع مثقّفو العالم العربيّ وفنّانوه في فخّ هذه المعياريّة الغربيّة. فتراهم يجعلون بلوغ «العالميّة» شغلهم الشاغل، ظانّين أنّ هذا يتسنّى لهم عبر الانخراط في مشروع ثقافيّ تموّله مؤسّسة غربيّة تارةً، والاستعانة ببعض العازفين الغربيّين طوراً. في عالم الموسيقى تحديداً، ثمّة طوابير من المؤلّفين وضعوا نصب أعينهم تحقيق ما يسمّونه «مزج» التراثات الموسيقيّة و«تزويج» الشرق بالغرب، عبر تطعيم الأوركسترا الغربيّة بالعود (وآلات شرقيّة أخرى) أو وضع مقطوعات تستند إلى الموسيقى المقاميّة الشرقيّة لفرق موسيقيّة غربيّة عملاقة. وكثيراً ما تجد المتلقّين الغربيّين «مفحوطين» بمثل هذه الموسيقى، حاسبين أنّها تمدّ جسراً حقيقيّاً بين الشرق والغرب، وتتيح لهم أن يسبروا بعض غور الموسيقى الشرقيّة، وذلك على شيء من الذهنيّة الاستشراقيّة السطحيّة والمشوّهة.
كما ذكرنا آنفاً، العمليّة الإبداعيّة تتحدّى الأُطر والحدود ولا تسوغ برمجتها. غير أنّ معظم الساعين إلى الموالفة بين موسيقانا وموسيقى الغرب يتناسون أنّ الموسيقى الشرقيّة الكلاسيكيّة تتمتّع بِ «منطق» خاصّ في الإنتاج والأداء والتلقّف، من التقسيم المعتمد على الارتجال مروراً بالسلطنة وصولاً إلى ثقافة «السمع» والدور الذي يضطلع به «السمّيعة» في تشكيل اللحظة الموسيقيّة. هذا كلّه يكاد يكون غائباً عن ثقافة الأوركسترا الكبرى كما أنشأتها أوروبا. يضاف إلى ذلك أنّ الموسيقيّين الكبار في العالم العربيّ من سيّد درويش مروراً بمحمّد عبد الوهاب وصولاً إلى عاصي الرحبانيّ، على الرغم من ثقافة بعضهم الموسيقيّة الواسعة ولجوء بعضهم الآخر إلى القوالب والآلات الغربيّة، ما كانوا متهالكين على الغرب ساعين إلى خطب ودّه، بل كانوا يراعون الذائقة الشرقيّة ويعدّونها منطلقاً. بكلمات أخرى، لم يفضِ انفتاحهم على الغرب إلى اعتباره مركز الثقل الذي يجب أن يتحكّم في طبيعة إنتاجهم الفنّيّ. ولعلّ في هذا درساً لكلّ الذين تراودهم رغبة الوصول إلى «العالميّة» اقتناعاً منهم بأنّ الغرب هو مَن يضع معايير الثقافة.
