تراجَع تيودور أدرنو في جملة من التعبيرات عن تلك القطعية الحادة في عبارة “أن تكتب قصيدة بعد أوشفيتز عمل بربري”، إذ سجل له القول بعد سنوات من ذلك الكلام الحانق إنّ “المعاناة التي لها الحق في التعبير، تطالبنا بالكلام عنها”.
في اللحظة الفلسطينية، لا بل أصغر وأدق منها “اللحظة الغزّاوية” استعارة المشكاة عن سماوات البشر، تفضح كل تلك المعرفة وأخلاقها، وتدفع بالفنون جميعها إلى الميدان، وإلى المأزق.
هذه مونودراما “أصوات عميقة.. أصوات من غزة” على مدار ساعة تقريباً، وهي في طريقها إلى أوروبا، بعد ثلاثة عروض على مسرح المدينة في بيروت الأسبوع الماضي، تدرك تماماً وببساطة فعل الفن وفعل اللحظة التي تنادي الآن وليس غداً.
ما قاله أدورنو، وكذا ما قاله محمود درويش، عن الشعر الضروري، وما قالته مخرجة المونودراما سوسن دروزة لـ”العربي الجديد” إنّ المسرح الوثائقي رهان الفن والضرورة، وقت مشاهدة بروفة العمل في عمّان.
اليومي ينقلب أسطورياً، والمألوف يصبح بوابة إلى الهاوية
كل فن بعد إبادة غزّة ليس عملاً بربرياً، بل يختبر مغامرته الفنية على حافة الجرف. شيء ما يلحّ، بيد أنه قد لا يكون ملحّاً، وفي هذا مفتاح التوتر الفني إبّان، وبعد وقوع القيامة.
لنأخذ الحقيقة من أفواه العباد، ومن إمكانية تدوينهم يومياتهم، كما فعلت الفلسطينية فرح الغول في غزّة، التي تستلهم الممثلة تهاني سليم يومياتها من قلب المذبحة، وتؤديها على الخشبة.
تقع الكارثة مع حدث صغير. كل مشهد فلسطيني منذ النكبة إلى اليوم هو بؤرة فنية مكثفة من التشكيل والإخراج والقطع، وشريط الصوت أو شريط الصمت، والوجود السوريالي، والوجود البسيط.
هكذا تطلب الشابة من أمها صحن زيتون أسود، لتبدأ الحرب أمام الكرة الأرضية، العالم كلّه يدلّي أرجله من الكوكب ويتابع المسرحية على القمر.
من العرض (العربي الجديد)
في مسار متلازم بين الوثائقي والتعبيري المسرحي لم يعد المسرح الوثائقي خياراً تجريبياً. هذا زمن تتوالد فيه الصور وتتبخر الحقائق، ولقد فكر طاقم المسرحية كما غيرهم كثر بأنّ إنقاذ الذاكرة من النسيان السريع نداء الوعي الصلب و”نداء الملح في الدم” كما يذهب شاعر فلسطين، ومحاولة لاستعادة الإنسان من بين الأرشيفات والأخبار العاجلة.
غير أن الوثيقة وحدها لا تكفي لتكوين مسرح. فهي تحتاج إلى رافعة فنية تعيد لها روحها، حتى لا تتشابه مع محاضر الشرطة.
المسرحية في هذا السياق أدت دور الفيلم المباشر الذي يقوم جوهره على لعبة واحدة: اترك الكاميرا تعمل طوال الوقت. لا تطفئها. ستأتي اللحظة المذهلة حتماً وحدها.
لأن المسرح ليس لديه هذه الإمكانية التلقائية للتسجيل الحي، فعلى ماذا يراهن؟ رهان سوسن دروزة كان على الأداء الصعب لكل هذه الشخصيات النسائية بجسد وصوت ممثلة واحدة، وعلى الفضاء السينوغرافي في أقمشته البيضاء المتدلية وهي تتنفس مع الضوء، وتتحول إلى جدار، أو خيمة، أو بحر.
حين تسقط الإضاءة الحمراء، تتحول الستائر إلى لهيب. وحين تضاء بالرمادي الشاحب، تبدو كأنها رماد الحرب ذاته. تسقط على الأقمشة صور رقمية لوجوه ودمار، الوجوه تحكيها تهاني سليم والدمار طريق طويل من الشمال إلى الجنوب. كل ذلك يتماهى مع ظل الممثلة. هكذا يتضاعف جسدها بين الوجود الواقعي والافتراضي، لتغدو الشاشة امتداداً للجسد لا نقيضاً له.
هنا يأتي المسرح التعبيري بوصفه الرافعة التي تمنح الوثيقة لحمها ودمها، وتفتح أمامها أفق التأويل والصورة. الوثائقي يقدم الشهادة، والتعبيري يمنحها الإيقاع والنبض. وعندما يتقاطع هذان التياران في عرض واحد، يطرح المسرح مقاربته الجمالية من داخل اليوميات المسجلة بالساعة والدقيقة. يكثفها يقطرها، قطرة قطرة من الدم والدمع، ويحاول البقاء صامداً على الخشبة.
يبدأ العرض بلا مقدمات. صرخة فصيحة: “اقرعوا الطبول، اقرعوا الطبول. لم يسمعوا بعد إذن اقرعوا”.
من اللحظة الأولى، تدخل تهاني سليم إلى الخشبة كمن يدخل إلى الذاكرة.
كل شيء يبدأ من تفصيلة مطبخية في طلب زيتون للإفطار، حين يبدو كأن كل شيء انهار على الأرض، هناك، حتى أنّ اللغة لا تسعف مفرداتها. أما هنا فليس بعد.
قالت الأم بلهجة غزة “اطّمني، البيت ماكن، (قوي) بناه أبوك طوبة طوبة”.
لكن البيت ينهار بعد لحظات، وتبدأ فرح في تذكر ما لا يحتمل. من هذه اللحظة، تتغيّر قواعد الزمن المسرحي. اليومي ينقلب أسطورياً، والمألوف يصبح بوابة إلى الهاوية.
في رحلتها نحو الجنوب، ستعثر على كثير من الموت، وستتحدث بلغةٍ من ثلاثة مستويات.
يبدو النص كما لو كان تركيبة لغوية طبقية: العامية الأولى تخصّ جيل الأمهات والجدات والذكور.
العامية الثانية لفرح، لهجة بيضاء تمثل جيلاً مدنياً مفتوحاً على المنصات والتكنولوجيا. أما الفصحى، فهي لغة الراوي الغائب، الحاضر، صوت الذاكرة الجمعية.
ويتوالى السرد بين هذه الطبقات دون فواصل، كأن اللغة نفسها تتحول إلى كيان حي يعيش، ويشيخ ويموت على الخشبة.
تقول فرح في ذروة النص: “في حاجات صعب وصفها لأنه ببساطة ما بيفهمها إلا اللي عاشها”.
الجملة تتكرر كأنها لازمة وجودية، تعيد المشاهد كل مرة إلى سؤال التمثيل: من يملك حق الكلام؟ ومن يحق له أن يصف؟ من يستطيع الوصف إذا لم يعش تحت تلك القيامة؟
وبين محطة موت ونجاة تسمع في خلفية المشهد، أصوات نشرات إخبارية بالعربية والإنكليزية، بينما تتحرك يدا فرح بلغة الإشارة. الجسد ينطق حين تعجز اللغة.
وتواصل طريقها إلى الجنوب عبر متاهة ظهرت لنا على شكل حصى، رسمتها تهاني على الأرض بما يمثل “الممر الآمن” الذي امتلأ بالجثث. هنا يتحول الحصى إلى علامات طريق لا تفضي إلى مكان.
تصل خانيونس. تسكن مع النازحين في صف مدرسي مكتظ. البرد، الجوع، الدورة الشهرية، المراحيض المذلة. كل ذلك يقال في صوتٍ واحد، وكل نأمة تحمل وزن مجرة صمّاء.
لاحقاً، حين تصل إلى رفح، ترفع يديها فوق وتقول “يا رب، نتوجه إليك… أنزل علينا الغيث”، والمطر ينهمر عبر الشاشة الضوئية فتلتقطه بسطل صغير. المشهد يصهر الواقعي بالميتافيزيقي، والمطر الرقمي يبلل المسرح فعلاً، لكنه لا يروي العطش.
هذا هو المشهد الأخير. تندفع الممثلة راكضة في مكانها وسط عتمة البحر، تتحول الخيمة إلى شراع، والبرودة إلى صوت أمواج.
تتجمد الصورة على بحر غزة النهاية التي هي بداية أخرى. وحين تضاء الستائر الأخيرة على زرقة البحر، يكون العرض قد أتم دورته، من البيت إلى الخيمة إلى الموج، من الحصار إلى الأفق.