يُسلّط التقرير الذي عُرض مؤخراً أمام مجلس الأمن الدولي الضوء على جانب بالغ الحساسية في مسار الحرب السودانية، كاشفاً خيوطاً جديدة في التورط الإماراتي بارتكاب المجازر ودعم الميليشيات بالأسلحة والعتاد، والذي لم يعد يتعلق بمجرد “اتهامات إعلامية” بدعم قوات الدعم السريع، بل بتوثيق أممي يربط بين صادرات السلاح البريطانية إلى الإمارات وبين وصول معدات عسكرية متطورة إلى ساحات القتال في السودان، في انتهاك للحظر الدولي وتغذية مباشرة لصراع دموي مستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات.
تشير المعلومات الواردة في التقرير بوضوح إلى أن محركات بريطانية الصنع ومعدات تدريب على الأسلحة الصغيرة وجدت طريقها إلى أيدي قوات الدعم السريع، عبر قنوات توريد إماراتية. هذا التسلسل يكشف شبكة معقدة من العلاقات الدفاعية والتجارية، تُدار تحت غطاء “التعاون الصناعي” بين لندن وأبوظبي، لكنها تنتهي في مسار مختلف تماماً حين تصل منتجاتها إلى مناطق النزاع. فشركة Edge Group الإماراتية التي تصنع مدرعات Nimr Ajban استخدمت محركات من إنتاج Cummins البريطانية، وهي مكونات خاضعة لترخيص حكومي صارم، ومع ذلك ظهرت في ميدان حرب يخضع لعقوبات أممية.
المفارقة أن هذه الصادرات لم تتوقف حتى بعد أن كانت الحكومة البريطانية قد تلقت تقارير تشير إلى استخدام المدرعات نفسها في ليبيا واليمن، ما يجعل استمرار التراخيص إلى الإمارات، وفق الوثائق التي استعرضها الجيش السوداني أمام مجلس الأمن، إشكالاً سياسياً وأخلاقيا. فالإمارات، التي تُقدَّم في الغرب كشريك مستقر في مكافحة الإرهاب وضبط الإقليم، تظهر في هذه الوثائق كدولة لعبت دور الوسيط في تحويل السلاح إلى طرفٍ متهم بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد المدنيين.
هذا الدور المزدوج يعكس نمطاً مستمراً في السياسة الإماراتية: التوازن بين الانخراط المعلن في الشراكات الأمنية الغربية وبين الانغماس الفعلي في نزاعات إقليمية ذات طابع داخلي. ففي الحالة السودانية، لا يمكن النظر إلى دعم قوات الدعم السريع باعتباره مجرد موقفٍ سياسي، بل هو امتداد لاستراتيجية نفوذ تهدف إلى توسيع السيطرة الاقتصادية والعسكرية في شرق إفريقيا والبحر الأحمر، عبر أدوات محلية وأذرع مسلحة تضمن مصالحها الميدانية.
التقرير الأممي، كما نقلته صحيفة الغارديان البريطانية، لا يوجّه اتهامات مباشرة بقدر ما يضع سلسلة من الوقائع المترابطة، تكفي لتكوين صورة عن تورط غير مباشر تتحمل الإمارات مسؤوليته القانونية والسياسية أيضاً. فالدعم اللوجستي أو التكنولوجي، حتى لو جاء عبر شركات وسيطة أو تراخيص تجارية، لا يُعفي من العواقب حين يُستخدم في ارتكاب جرائم حرب. واللافت أن بريطانيا منحت، ما بين 2015 و2024، أكثر من عشرين ترخيصاً لتصدير معدات عسكرية إلى الإمارات، من بينها أجهزة تدريب على الأسلحة الصغيرة، دون أن تضع ضوابط كافية تضمن عدم تحويلها إلى مناطق نزاع.
ما يثير القلق أكثر أن لندن منحت ترخيصاً يتيح تصدير كميات غير محدودة من هذه الأسلحة، بعد ثلاثة أشهر فقط من تقديم صور لمجلس الأمن تُظهر استخدامها في السودان. هذه المفارقة تكشف أن النظام الرقابي البريطاني ربما يتحول إلى غطاء قانوني يُمكّن أطرافاً أخرى من نقل السلاح بطرق مشروعة ظاهرياً، لكنها مخالفة في الجوهر للقانون الدولي. ومع أن المسؤولية المباشرة تقع على المُصدّر، فإن الوجهة النهائية تضع الإمارات في دائرة المساءلة بوصفها دولة عبور وتحويل.
التحذيرات التي أطلقها خبراء الأمم المتحدة وحقوقيون تعكس إدراكا متناميا بأن المسألة تجاوزت إطار “التحويل غير المشروع” إلى احتمال التواطؤ البنيوي في تمويل وتسليح قوة ارتكبت مجازر جماعية. وهذا ما يجعل الدعوات إلى تحقيق دولي شفاف في مسار السلاح الإماراتي أمرا ملحّا، ليس فقط لإنصاف الضحايا، بل لحماية مصداقية منظومة الحظر الأممي التي تتآكل بفعل مثل هذه الحالات.
ما تكشفه هذه القضية أن الحرب في السودان ليست صراعاً داخلياً بحتاً، بل جزء من شبكة مصالح إقليمية ودولية تتغذى على الفوضى. فالإمارات التي تسعى للظهور كوسيط إنساني أو داعم للاستقرار الإقليمي، تواجه اليوم تساؤلات جوهرية حول طبيعة دورها الحقيقي، وكيف تساهم في تأجيج الصراع عبر تمويل وتسليح بعض الفاعلين المحليين.
مع استمرار الحرب السودانية وتفاقم المأساة الإنسانية التي راح ضحيتها أكثر من 150 ألف وشردت ملايين المدنيين، يبدو أن أي محاولة لتبرئة الدور الإماراتي من تبعاتها ستصطدم بحقائق موثقة لا يمكن انكارها أو تجاوزها. فالحقائق التي وصلت إلى مجلس الأمن لا تتعلق بتجارة سلاح عادية، بل بمسؤولية محتملة عن إطالة أمد واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية دموية في العصر الحديث.
