على الرغم من تحول أغاني الراب إلى ظاهرة واسعة في العالم العربي، مع ذلك فإن هناك عزوفاً من قبل الباحثين والمهتمين بتاريخ الموسيقى، أو حتى بتاريخ المنطقة، عن دراسة هذا النوع الجديد من الغناء. في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال، نرى أن هناك عدة عناوين صدرت عن تراث أم كلثوم الغنائي، وهو تراث بلا شك يستحق الاهتمام والقراءة الدائمة.
لكن ماذا عن أحوال الموسيقى الجديدة في المدن العربية، وبالأخص الراب؟ اللافت أن هناك جيلاً من الصغار يستمع بشدة لهذا النوع من الموسيقى، ويبدي اهتماماً بتتبع أخبار مغنيي هذا النوع من الموسيقى، على وسائل التواصل الاجتماعي. ويبدو أن هذا الأمر لم يعد شيئاً هامشياً، بل نرى أن أغاني الراب اليوم تحظى بملايين المشاهدات والاستماع.
ولعل هذا التحول هو الذي دفع الباحث المصري في الموسيقى سيد عبد الحميد، إلى إعداد كتاب بعنوان «فن الشارع حكايات عن كتابة الراب والموسيقى»، دار صفصافة. يعتقد المؤلف أن هناك ثلاث موجات لعبت دورا في ظهور صناعة الراب في مدينة مثل القاهرة. خلال الموجة الأولى (2003 – 2007) ظهر أوائل المغنين، الذين يعتمدون على كتابتهم وإمكانياتهم المحدودة، وحملت ظهوراً متجدداً للرواد بعد انقطاع، بالإضافة إلى ظهور أسماء جديدة أكبر مع بدايات صعود المنصات الموسيقية ومواقع التواصل الاجتماعي بعد الربيع العربي.
ثم جاءت الموجة الأشهر والأكثر نضجاً بداية من عام 2017 حيث بدأ صعود وانتشار Trap Music كلون موسيقي منبثق من Rap Music مدعوماً بأدوات مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الموسيقية، ما ساهم في الالتفات لهذه المشاريع الفنية وإدراجها في المشهد الموسيقي العام، ثم اعتمادها كلون موسيقي خاص.
كان لا بد لهذه الموسيقى أن تأتي شبابية وفي كامل عنفوانها، صاخبة تحتوي ضجيجاً قد يبدو مبالغاً فيه، وتحمل خطابا توجيهيا لفئات عمرية أصغر، باعتبار أن معايشة الثورات تجربة قد لا يحظى بها كل الناس، فإن حميمية العلاقة بين النص وصاحبه تدفع المتلقي للغوص أكثر داخل تفاصيل العالم الموسيقي أو الرموز الموجودة في كل أغنية، على سبيل التلصص والتقصي.
عالم الرابرز.. ما هو؟


يعتمد الراب على متابعيه بشكل حقيقي وأساسي، فجمهور الرابر – أكثر من أي جمهور آخر – هم الأكثر حباً لصاحب المحتوى. يكفي أن يشاركوا ويشاهدوا المحتوى فور نشره، ليضعوه في قوائم الأكثر مشاهدةً أو استماعاً، أو حضور حفلات مطربهم المفضل لدعمه وسماعه. وإذا اقتصر الدعم على هذه الصور فقط فإنه يبقى في أبهى صوره. أما الميزة الحقيقية في جمهور الراب فهي أنهم أهم ناقد للرابر، وهم الأبرز في عملية النقد الفني للمحتوى، وأول المساهمين في رفع مستواه. جمهور الراب هم أصحاب ذوق فني مختلف نتيجة الاطلاع على أغلب إنتاج هذا اللون الموسيقي بكل اللغات، لذا فإن الاطلاع وكثرة الاحتكاك بتجارب أخرى نتيجة الإعجاب بهذا النوع، تخلق قدرة على تحديد العيوب والمزايا بشكل أسهل مع التكرار، يقدرون أي محتوى يستحق التقدير، حتى لو كان من رابر صاعد، وينتقدون المحتوى السيئ، أو السهل الذي لم يكدّ صاحبه لإبرازه في أفضل صورة. في البداية، حاول الرواد تعريف الناس بمنتجهم الموسيقي وتوضيح سماته وأبرز صفاته، التي يمكن اختصارها في التعبير عن الذات بكل جوانبها، وتسليط الضوء على السلبيات التي لم يدفع أحد من قبل للحديث عنها باعتبارها جزءا أساسيا في تكوين أيٍّ منا، بالإضافة إلى المدح والتفخيم اللذين هما أصل نشأة الراب، وسر تفرد كل مغنٍّ له.
تبدأ شهرة الرابر الحقيقية من وقت سيطرته على «التريند»، ووجود «تراكاته» ضمن الأكثر استماعاً على المنصات المرئية والمسموعة مثل يوتيوب وساوند كلاود. أما عن الأقدمية والأكثر رسوخا والأب الروحي للراب في مصر فهو، «أبيوسف» صاحب التاريخ الطويل الذي قد يصل إلى 15 سنة في تقديم الراب. اشتهر «أبيو» بقدرته على تقديم الهجاء المعروف في عالم الراب بالدِس، وبقدرته على مدح نفسه، وذم أعدائه وإبراز نقاط ضعفهم في معارك الراب المعروفة بالباتل، التي تعتمد على النفس الطويل والقدرة على الإتيان بمصطلحات جديدة يمدح بها نفسه ويناكف بها الآخرين.
بدأ يوسف في مجال الراب بخلفية موسيقية جيدة كعازف درامز، وكاتب إعلانات يعتمد على موهبته ودراسته في التسويق لأي شيء منذ البداية لأنها الأكثر تميزاً. عند الاستماع له في المرة الأولى، ربما لا نتمكن من فهم أي شيء بسبب سرعة أدائه للتراك (الأغنية) فتحتاج لسماع التراك أكثر من مرة، تلتقط عدة كلمات من عدة جمل، تبحث عن الكلمات في غوغل، وهنا تبدأ رحلتك الحقيقية للدخول في عالم محبي الوطواط؛ أبيوسف الوطواط صاحب الشخصيات المتعددة، أحد أوائل محترفي غناء الراب في مصر، تاريخ يتجاوز الـ400 تراك وملايين المشاهدات على يوتيوب. يكمن سر قوة أبيوسف في فنيات الكتابة، في صناعته لمعجم لغوي كامل خاص به، واستخدامه للألفاظ والتلاعب بها وتركيبها وتغييرها، كما في العبارة التالية: «عزيزي القارئ: تأليفي هابط، خبط فيا براحتك، أنا إيزي تارجت». مثلت هذه المرحلة الأولى من حياة أبيوسف وقسم كبير من جيله، التي كانت مليئة بالتخبط والتوقفات العديدة، بسبب الإدمان أو الاكتئاب، والمشكلات العديدة للرجل الذي شارف على الثلاثينيات، ولم ينجز أي شيء حقيقي. كانت متشبعة بالمشاعر، ومكثفة بالتشبيهات اللازمة لصنع محتوى سيتمكن في ما بعد المتتبع له من معرفة مدى صعوبة إنتاجه والأسباب اللازمة له، كموظف يعمل في كتابة الإعلانات، يهوى عزف الدرامز وكتابة الأغاني، ويقترب من الثلاثين، في بلد مر بثورتين عاصفتين لكل الكوادر السياسية والاجتماعية والثقافية.
في المقابل، نرى أحمد ناصر المعروف إعلاميا باسم «الجوكر». بدأ أحمد ناصر الكتابة في 2007 وفاز بجائزة أفضل قصيدة في مسابقة صغار الأدباء، بعدها لم يجد مناخا كافيا لانتشار كتاباته، سواء للشعر بالفصحى أو لكتابة الروايات، فاتجه للكتابة بالعامية، وتحديدا الراب بالطريقة التي تهتم بمفردات قوية وتعبيرات مركبة على موسيقى إيقاعية بطيئة، في ما يعرف بطريقة Old School مع أداء تراكات الراب، التي تتسم بالهجاء والذم في مغنيي الراب، الذين شككوا في موهبته وسخروا منه، فكانت التراكات الهجائية – Diss Track – أفضل طريقة لإثبات حجم موهبته وإثبات نفسه في مجال الراب في مصر.
يعتمد مغني الراب في أدائه على عدة طرق، أبرزها الطريقة القديمة -الكلاسيكية- التي كانت طريقة غناء أحمد ناصر في البداية غاية في الكلاسيكية والهدوء، لافتقاره لقدرات الغناء على إيقاع سريع، أو للنفس الطويل والقدرة على كتابة جمل قصيرة، فلم ينجح في نيل الإشادة ممن هم أقدم منه في مجال الراب، رغم قلة عددهم في أوقات بدايته، ما فتح مجالاً للسخرية منه بواسطة مغنيي الراب الأقدم.
في الوقت الذي جاء فيه الجوكر مُعلنا وجوده على ساحة الراب، من خلال الأغاني التي تذم الآخرين، كان المشهد الموسيقي في حاجة لكسر التابوه الخاص بنمطية المواضيع المستهلكة، أو الموسيقى البطيئة، ولتحطيم صنم الأغنية الخالية من المصطلحات الدارجة، أو الألفاظ العامية الإباحية، بالإضافة إلى اعتماد هذا الحضور على الذاتية بشكل كامل باعتباره كاتب الأغاني ومؤديها، ما منح المتلقي الشعور بالاندماج أكثر مع الموضوع، والتماهي معه، باعتباره بطل الأغنية نفسها التي اتخذت نمط القصة القصيرة في بعض الأوقات، وتكونت من بداية ووسط ونهاية، بالإضافة إلى وجود الرمزيات في بعض الأغاني التي عبر فيها الجوكر عن نفسه، ككاتب يرغب دخول عالم الأدب.
وفي الكتاب تفاصيل وسير عديدة أخرى من حياة نجوم الراب، ولذلك فهو يستحق الاهتمام والإشادة، كونه خاض في مساحة هامشية قلما يبدي لها الباحثون الاهتمام الكافي.
كاتب سوري