تعدو الكتبُ أن تكون مجرّد كلماتٍ وحروف مخطوطة أو مطبوعة على أوراق، لكي تشكّل أدواتٍ تحمل تاريخاً كبيراً وحكاياتِ حضاراتٍ بأكملها. هذا ما يحدّثنا به كتابُ “اختراعُ الكتب في العالم القديم… اللامتناهي في بردية”، للكاتبة إيريني باييخو، في نسخته العربية المترجمة ببراعة على يد مارك جمال، والصادرة عن دار الآداب في بيروت (2024). وباييخو، المولودة عام 1979 في سرقسطة، كاتبة وباحثة في الأدب الكلاسيكي، درست فقهَ اللغة اللاتينية واليونانية القديمة، وتُعدّ من أبرز الأصوات الأدبية في إسبانيا اليوم، وقد اشتهرت بمقالاتها في الصحافة الثقافية الإسبانية، قبل أن يتحوّل كتابُها هذا إلى ظاهرة عالمية، فيبيع أكثر من 50 طبعة، يترجم إلى أكثر من 40 لغة، ويحوز جوائز عديدة.
في مقدّمة الكتاب، تكتب باييخو جملةً تكاد تلخّص روحَ العمل كلّه: “أينما كان هناك كتاب، هناك إنسان يحاول الانتصار على الزمن”، عبارة تمنح القارئ مفتاحَ الدخول إلى عالم تتتبّع فيه المؤلّفةُ رحلةَ الكتابة منذ أول نقشٍ على طين في بلاد الرافدين، مروراً بالبرديات المصرية والمخطوطات الجلدية والورقية، وصولاً إلى أحدث صيغة رقمية في الشاشة، متسائلةً عن المعنى العميق لاحتفاظ الإنسان بالكلمات، كيف تحوّلت الكلمة إلى مادّة، ثم إلى وعاء للروح الإنسانية، وعن السرّ الذي يجعلها تصمد أكثر ممّا تصمد الممالكُ والإمبراطوريات.
غير أن باييخو لا تكتفي بسرد الوقائع التاريخية، بل تصوّر الكتبَ كائناتٍ حيّة لها دورها في الحفاظ على المعرفة وصوغ هُويَّات الشعوب، فتُبرز مكتبةَ الإسكندرية العظمى رمزاً لهذه الرحلة الطويلة، معتبرةً أنها “خلقت موطناً من الورق لمن لا موطن لهم”، وفيها تلاقت ثقافاتٌ متعدّدة وكلماتُ شعوب مختلفة. ولأن أسلوب الكتاب يمزج بين المعلومات التاريخية والسرد القصصيّ، نرى الصفحات تنبض بالحياة، متنقّلةً بإمتاع بين مكتبات مصر وبلاد الرافدين وفينيقيا واليونان وروما، مع استعراض تطوّر الكتاب من مراحله الأولى، إلى الورق والمطبعة، وهو ما يجعل القارئ يُدرك أنّ الكتبَ ليست مجرّد أدواتٍ لنقل المعرفة، بل هي حاضنة للذاكرة الإنسانية، وشاهدة على محاولات الإنسان الحفاظ على إرثه الثقافي عبر الزمن. هذا ويولي الكتابُ اهتماماً خاصاً لهشاشة الكتب ومخاطر اندثارها وتلفها على مرّ العصور، إذ كانت عرضةً للحرائق والتدمير والنسيان، ما يحوّل فعلَي الكتابة والقراءة فعل مقاومة لحفظ الثقافة وحماية الذاكرة الجماعية. ولا بدّ لهذا العمل الشائق أن يستدعي اهتمام القارئ العربي بشكل خاص، إذ إنه سيمنحه منظوراً واضحاً عن تراث المنطقة وحضاراتها المتنوّعة ودورها في حفظ المعرفة ونقلها بين الحضارات. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى جودة الترجمة التي تتمتّع بسلاسة الأسلوب واللغة، مع الإبقاء على الصور البلاغية والاستعارات التي تمنح الكتابَ طابعاً حياً وجاذباً لمختلف القراء، سواء كانوا متخصّصين أو قرّاء عاديين.
تبقى الإشارة إلى جانب آخر مهمّ، وهو التركيز في مساهمة النساء والمجتمعات الصغيرة في نقل المعرفة وحفظها (يُغفل غالباً في التاريخ التقليدي)، وتذكيرنا بأن الكتابة وحفظ الثقافة لم يكونا عملاً فردياً، بل جهوداً جماعيةً ساهمت في بقاء الإرث الإنساني وحفظه. وبالفعل، يقدّم “اختراع الكتب” تجربة قراءة شاملة تجمع بين التاريخ والمعرفة العامة، ويوفّر للقارئ العربي فرصةً لإعادة النظر في مكانة الكتب والكتابة في حياته اليومية، إذ يوضح أن القراءة ليست مجرّد عملية تعليمية، بل هي أيضا فعلٌ ثقافي يمتدّ عبر الزمن، ويربط ما بين الإنسان ومعرفته، وبين ماضيه وحاضره.
في الختام، يقدّم الكتاب تجربة قراءة تتجاوز المعلومات التاريخية لتلامس المعنى الإنساني لفعلَي الكتابة والقراءة، وتعيد لهما الاعتبار في زمن السرعة والنسيان. إنه تحية كبيرة للكِتاب والقارئ معاً، فتقول كلُّ صفحةٍ فيه إن الكتبَ ليست أوعيةً للمعرفة فحسب، وإنما هي بيوتٌ تسكنها الأرواح، وجسورٌ تصل الماضي بالحاضر وتتيح الانتقال من حضارة إلى أخرى.