
كان ذلك في عام 2010، أو قريبا منه.. كنا ستة أشخاص مزدحمين في غرفة جلوس صغيرة، أبواب الشرفة مفتوحة على مصراعيها في مساءٍ ربيعيٍّ من أمسيات بيت مري، في منزل أحد الأصدقاء، كان الوقت هادئا نسبيا، السياسة اللبنانية تمارس طقوسها المعتادة من التناحر الصغير، ولذلك اتجه الحديث نحو ما هو تافه وعابر، وفجأة، رمى الصحافي بيننا سؤالا أربك السكون: «من هو الزعيم اللبناني الوحيد الذي سنفتقده حقا إذا مات؟».
كان السائل كثيرِ الأسفار في دروب الفكر، متقلب الأيديولوجيا: في شبابه ماويٌّ ثوري، وفي الثلاثين يساريٌّ متعب الضمير، وفي الخمسين محافظٌ حتى العظم. بالنسبة له، كان رفيق الحريري رجل الأعمال، ورئيس الوزراء الراحل، قد غدا نموذج البطل. لكن الحريري، الذي كان قد مضى على رحيله خمس سنوات آنذاك، خسر التصويت أمام الأسطورة الحيّة: حسن نصر الله. وكان أول من نطق باسمه هو اليساري السابق ذاته، في مفارقةٍ مقصودةٍ تثير الابتسام.
يُقاس عِظَم القائد بمدى الفراغ الذي يتركه عند غيابه، ولا ينال هذا الحظ إلا القلائل ممن يتحولون إلى رموزٍ لعصرٍ بأكمله، فإذا رحلوا، طُويت معهم الصفحة التي كُتبت بأسمائهم
خمستنا كانت لنا تحفظاتنا على السيد، والصحافي تحديدا كان يكرهه، كان لا بدّ من الإقرار للسيّد بعظَمَته الفارقة، فعهده كان عهد المقاومة: تحريرا وجيشا، وثباتا وهوية، وسياسة وجماعة، وثقافة وتجارة، دولة كاملة، ولهذا، كان ظاهرة زمنية كاملة يُقاس عِظَم القائد بمدى الفراغ الذي يتركه عند غيابه. ولا ينال هذا الحظ إلا القلائل ممن يتحولون إلى رموزٍ لعصرٍ بأكمله، فإذا رحلوا، طُويت معهم الصفحة التي كُتبت بأسمائهم. وأتساءل اليوم: هل نسمع أوراق التاريخ تنقلب من جديد في لبنان؟ باستثناء نصر الله، لم يُنتج القرن الحادي والعشرون رموزه الكبرى بعد. أما القرن العشرون، فقد أُغلق ثرياً بالأيقونات في السياسة والثقافة معا، لا أدري إن كان أسامة بن لادن، الذي افتتح هذا القرن أيضا وجسّد ما فيه من فقرٍ سياسيٍّ رفعه إلى مرتبة النجوميّة، وجعلنا نحن سكان الفراغات، سيحظى بمكان في هذا الفضاء. أتردّد، لا كراهة للكلام، بل تواضعا أمامه، فما زال الوقت باكرا؛ والصبر أولى من التكهن. ومع ذلك، يصعب أن نجد لنصر الله نظيرا في الساحات والجغرافيا الراهنة. فالمشهد اليوم لا يتيح ما دفع أمّ كلثوم وجمال عبد الناصر إلى ذرى المجد بعد وقتٍ قصيرٍ من اعتلائهما فضاء الظهور، ذلك التداخل المدهش بين الثقافة والغناء والسياسة، بين العاطفة والخطابة، كانت ذروة مجدهما ذروة مصر، وكذلك كان انكسارُهما. في بيتنا، لم يُسمع صوت الستّ، كوكب الشرق. السبب كان سياسيا: والداي لم يكونا ناصريين، وكذلك لم يكونا من عشاقها، كانت فيروز رمزاً آخر، هي صوت المساء، صوت لبنان الحنين والحلم، وصلاة فلسطين. كانت صورتهم عن الوطن مرسومة على نبرتها الشفيفة. أما في الحبّ، فكانت هي، لا أمّ كلثوم، من تشد على أوتار قلوبهما. أما لوالدتي ـ ولم تكن وحيدة في ذلك ـ فكان هناك استثناءٌ واحدٌ لتلك القاعدة، أسمهان، الأميرة المهاجرة ذات الأصل السوري، التي يُقال إن أم كلثوم كانت لتظل في ظلّها لو لم تمت أسمهان عام 1944 عن ستةٍ وعشرين عاما فقط، أو هكذا تُروى الحكاية. ويُقال عن المغنّيتين إن «أمّ كلثوم غنّت بالعقل والقلب، في ما غنّت أسمهان بالروح والجُرح». لكن الحقيقة أنّ تلك الأميرة المغنّية، وعلى خلاف أمّ كلثوم لم يكن بوسعها أن تكون قرينَةَ عبد الناصر أو ظلَّه الآخر. فمصرُهما كانت، في الواقع، على وشك أن تُطيح بمصرِها.
ولكن كم نفتقد أم كلثوم اليوم؟ وكم نفتقد الرجل الكبير، الشاعرَ بنفسه، حتى أولئك الذين يكرهونه؟ إنّه الفراغ. ففي عظمتهما نقيس صغرنا، وفي فشل مشروعهما نفهم أيضا سبب صغر حجمنا. لقد جسّدا صعود القومية العربية، وحضور الريف، وصورة المرأة العربية كفاعلة، ومصر كأمٍ للعالم العربي. لكنّهما أيضا كانا ذروة مشروعٍ انتهى بانكساره، حين صعدت أم كلثوم، كان التراب يغلي بالحلم، وحين رحلت عام 1975، كان الجفاف. لم يكن العقلُ المبدعُ قد استسلم، بل اضطرّ إلى أن يعمل في بيئاتٍ تزداد عداء له يوما بعد يوم. كانت آخر حفلاتها عام 1972. رحل ناصر قبلها بخمس سنوات، في الثانية والخمسين من عمره. إرثه المثقل يشمل تأسيس الدولة الأمنية الحديثة، لكن جرحه الأكبر كان نكسة 1967، التي كانت بالنسبة له ـ ولنا ـ عبئا لا يُحتمل. شيّعه الملايين، لكن الذين ودّعوا الست كانوا أكثر. كان الشعب يعرف أنه لا يودّع عصرا بأكمله. كان جيلي وجيل نصر الله، الجيل الذي بلغ رشده السياسيّ في ثمانينيات القرن الماضي، وارث إرثِ عبد الناصر، وليس بين تلك التركات ما كان أثقل وطأة من هزيمة 1967. وكانت انتصارات المقاومة في عامَي 2000 و2005 جوابها الصارخ على عقودٍ من الهزائم العربية أمام إسرائيل. أما أخطاءُ الحركة، فلم تكن، في الحقيقة، مختلفة كثيرا عن تلك التي أودت بأنظمةٍ عربيةٍ عديدةٍ إلى الحضيض. وكما لم يكن ناصر ليستطيع أن ينجو من عام 1967، لم يكن السّيد ليُعمّرَ بعد 2024.
وحين رحل الرئيسُ المصريّ ناصر، قلائل كانوا من استطاعوا أن يتبيّنوا ملامح العصر الجديد بوضوح أو يقين. وقلائلُ منّا اليوم من يستطيعون ذلك في غياب نصر الله، بما في ذلك، على ما يبدو، حزبُ الله نفسه. وقد تُركَ لنا جميعا، محبّين وكارهين، أن نفتقده في الفراغ.
كاتبة لبنانية
