ثمة تيمة تتكرر في الإنتاج السينمائي في تونس خلال العقد الأخير، ولعل الثورة وسقوط بن علي ومن بعدها التقلبات السياسية المتواصلة هي ما جعلت الانهيار المفاجئ للعادي، محكاً رئيسياً في الحبكة السينمائية المعاصرة هناك. ذلك الانفراط الكارثي للعادي يفضي في العادة إلى الغرائبي والبدايات الجديدة منقطعة الصِّلة بالماضي كلية، والفانتازيا، وأحياناً كثيرة انفلات العنف غير محدد الهدف. ويمكن الادعاء من دون مبالغة أن هناك موجة غرائبية في السينما التونسية على وزن سابقتها اليونانية، وأن صناع الأفلام في تونس لديهم من الجرأة للتجريب في سينما النوع بشكل لا نظير له في سينمات العالم العربي. ومن بين الأفلام المنتمية إلى تلك الموجة يمكننا الإشارة إلى “فرططو الذهب” (2021) لعبد الحميد بوشناق، و”عصيان” (2021) للمخرج الجيلالي السعيدي، و”أشكال” (2022) ليوسف الشابي، و”وراء الجبل”(2023) لمحمد بن عطية. 

 

في الفيلم الثالث للمخرج التونسي، علاء الدين سليم، والمعنون “آڤورا” (2024) تقاطع العودة المفاجئة لثلاثة من المفقودين، سير الحياة اليومية في بلدة صغيرة على البحر. يقلب سليم تيمة الاختفاء المطروقة على رأسها. لا غياب هنا يزعزع بنية اليومي ولا اختفاء يضفي هالة من الغموض على الأحداث، بل على العكس العودة هي المؤرقة وغير القابلة للتفسير. الثلاثة ليسوا شخصيات بالمعنى المكتمل للكلمة، بل نماذج في أمثولة سياسية. الأول راعٍ تذبحه الجماعات الجهادية ويعود إلى بيته وجثته تقطر دماً. والشخصية الثانية امرأة تُلقى في البحر أثناء رحلة هجرة غير شرعية وبعدها تلفظها الأمواج إلى الشاطئ. والثالث يقتل حين ينهار عليه جزء من مبنى أثناء العمل.

 

 

تلك الجثث الراقدة في حالة عجائبية بين الحياة والموت تفزع سكان البلدة، بعضهم يرحب بعودة الغائبين في البداية، والبقية يخشون أنهم لعنة. تعجز السلطة، ممثلة في مفتش الشرطة فتحي ورفيقه الطبيب أمين، عن الفهم، ومن ثم تسعى لإخفاء الأجساد عن العيون والتكتم على الأمر. في أحد وجوهه، يقارب الفيلم مسألة الذاكرة الجمعية للتروما، خصوصاً السياسية منها، تلك الذاكرة التي تسعي السلطة لكبتها. لكن النسيان لا يقدم خلاصاً، فكلما حاول سكان البلدة الإنكار أو التناسي، ضرب الفساد كل شيء، الخضروات والأسماك تتعفن في الأسواق، والكلاب تنبح في رعب والطيور تسقط ميتة. “آڤورا” هي الكلمة التي تصف الفضاء العام في المدينة اليونانية، الفضاء المفتوح حيث تقام الأسواق ويجتمع المواطنون الأحرار لتصريف أمور الحكم. لكن سكان البلدة المحرومين من معرفة الحقيقة أو استعادة ذاكرتهم، يكتفون بالتهامس في خوف طويلاً، قبل أن ينتفضوا ويتصادموا مع السلطة. 

 

يعتمد سليم على حوار متقشف، حيث تلعب اللغة دوراً هامشياً، ويحل بدلاً منها الصمت والهمس غير المفسر والتشكيلات البصرية المتأرجحة بين الظلمة والإضاءة الخافتة في لعبة للغموض. راوي الفيلم هو كلب ميت يخاطب جثة غراب ترقد بجانبه. كما في فيمله السابق “طلامس” (2019)، والذي يدور حول هروب شاب من الجندية إلى الغابة، تلعب الطبيعة والالتحام بها أو تدميرها دوراً مركزياً في أهتمام سليم السينمائي. في أحد وجوهه الأخرى، يعد “آفورا” فيلماً عن الخراب البيئي والهواجس المرتبطة به. 

 

بين العناصر البوليسية والغرائبية والسياسية، هناك إشارات غامضة لكن مألوفة بشكل مثير للحيرة، تتناثر على طول الفيلم، وفي ربعه الأخير تُحلّ الأحجية أمام عيوننا، ونرى عناصر التراث الديني تتكشف على حدود قصة أصحاب الكهف. قد تكون الجثث الثلاثة هي لفتية الكهف ورابعهم كلبهم، وقد يكون أهل البلدة جميعهم هم من يسيرون مغمضي العيون نحو كارثة الطبيعة المحدقة بهم.