مذهلة، آسرة، مربكة هي إيزابيل أوبير في ردودها وأجوبتها. تلك الممثّلة الفرنسية المدهشة، ذات الاثنين والسبعين عاماً، التي كرّمها مهرجان تسالونيك الأخير (30 تشرين الأول/أكتوبر – 9 تشرين الثاني/نوفمبر)، مع عرض مجموعة من أفلامها، قدّمت لقاءين إثنين: أحدهما مع الصحافة، والآخر مع الجمهور. وقد جاءت تحمل بين ذراعيها فيلمها الأحدث، “أغنى سيدة في العالم”، لتييري كليفا، المستوحى من قضية بانييه –  بيتانكور التي هزت فرنسا، فكان حضورها مناسبة جديدة لنعي كم هي فريدة بين زميلاتها، فرادة بكلّ ما في الكلمة من عمق ومعنى.

أوبير كتلة من البرود الآسر والسينيكية. تقول ما في خاطرها بلا تزيين أو مواربة. مباشرة، صريحة وساخرة في آن واحد. لا أثر للادّعاء أو التملّك في عباراتها وأفكارها. ترافق أجوبتها ابتسامة خفيفة تُلقي بظلالٍ من الحيرة واللبس، تزيدها غموضاً. يصعب ألا ننبهر بها، فهي في الحياة كما على الشاشة: لا تساوم على ما تؤمن به، لا تبرر نفسها، ولا تلتفت إلى الوراء. تقول كلمتها وتمضي. كلّ عبارة منها أشبه بعيار ناري يخرج من المسدّس لمرة واحدة فقط.

 

خلال تقديم أحدث أفلامها في تسالونيك.

خلال تقديم أحدث أفلامها في تسالونيك.

 

عن اللحظة الأولى التي وضعتها في مواجهة الكاميرا، ذكرت أوبير والدها: “كنت يومها في الرابعة. والدي هو الذي صوّرني. لا أذكر أول تجربة مهنية لي، لكنها كانت على الأرجح دوراً ثانوياً في فيلم تلفزيوني، غير أني لا أستطيع تذكّر الانطباع الذي تركه في نفسي”. طوال مسيرتها التي انطلقت في مطلع السبعينات، اختارت أدواراً تتصدّر فيها المرأة المشهد. علّقت بالقول: “ربما كنتُ محظوظة، لكن نعم، سعيتُ دائماً إلى المشاركة في أفلام تتّخذ المرأة فيها مكانها. فهذه الطريقة الوحيدة للحديث عن شخصية نسائية، لا كظلّ لرجل، بل ككائن يقف في الواجهة، بكامل حضوره”. رغم أدائها الباهر إلى حدّ التماهي المطلق مع الشخصية، كما في “عازفة البيانو” لميشائيل هانيكه، لا تدّعي أوبير أنها ممثّلة معذّبة. الفيلم لا يعمّر في داخلها. “إني ممثّلة فحسب. لا أحمل الأفلام على كتفيّ. أهتم بها، بالطبع، فكرياً، لكن لا على المستوى العاطفي. ما إن يُنجَز حتى يستقلّ بحياته الخاصة. لكن هل يبقى من الشخصيات شيءٌ فيّ، أم أتركها هي الأخرى؟ نحن كممثّلين، يُطرح علينا هذا السؤال دائماً. في الحقيقة، لا يبقى الكثير منها. فإنجاز فيلم هو فعل حاضر مكثّف، وما إن ينتهي حتى يتلاشى معه كلّ شيء. أتنقّل بسهولة من شخصية إلى أخرى. ربما أكون “غير وفية” في هذا المعنى، فحين أتمّ فيلماً، يصبح فوراً خلف ظهري. طبعاً، يعنيني أن يحبّه الآخرون، وأن يُستقبَل بحفاوة، لكن عاطفياً لا أملك المساحة لأحتفظ به في داخلي. كلّ فيلم ينتمي إلى لحظته وحدها”.

في ما يتعلّق بأهمية التحضير قبل اعتلاء المسرح أو الوقوف أمام الكاميرا، قالت أوبير انها لم تقرأ ستانيسلافسكي قطّ، ولا تدّعي أنها تتّبع منهجاً محدّداً. “ربما ورثتُ طريقة ما من دون أن أعي. يروق لي أن أظنّ أنني لا أجسّد “شخصية” بل “وضعاً” أو “حالة”. أنا أمثّل المشاعر، أجسّد الإحساس. وربما يكون هذا متجذّراً في أسلوب معاصر في الأداء، يختلف عن النمط القديم الذي كان يركّز على الشخصية في ذاتها. السينما تتغيّر باستمرار، في الماضي كانت الشخصيات تُقسَّم بوضوح بين الخير والشر، أما اليوم فقد أصبحت الحدود بينهما غائمة، أقل يقيناً. ما أن نخطو نحو الدور، حتي ينتهي على الفور الزمن المتوافر للتفكير. لكن قبل تلك اللحظة، إني أفكّر كثيراً. عندما أمثّل، كلّ شيء يبدأ في التمحور حول اللحظة الراهنة. وهذا يتطلّب ثقة عالية في الذات. إنه أشبه بعقد نُوقّعه مع المخرج. إذا بدأت الشكوك تتسلّل إلى دواخلنا، فيصبح الأداء أصعب. في حالتي، يدفعني المخرج إلى الشعور بالحرّية. لا أعود أفكّر، بل أشعر فقط. أتجاهل كلّ شيء من حولي. ولعل ما يجعلني أكثر “اختراقاً” هو أن أكون نافعة للمخرج ومتاحة له بالكامل. بهذا التجرّد أبلغ التفرّغ التام. لعل هذه صفتي الجوهرية كممثّلة”.

 

مع كريس كريستوفرسون في ”بوابة الجنّة“.

مع كريس كريستوفرسون في ”بوابة الجنّة“.

 

كشفت أوبير أنها كانت تتمنّى لو أُتيح لها التمثيل في “فرتيغو” لهيتشكوك (“ولو إنني لستُ شقراء بما يكفي له”)، قبل أن تعترف بأنها لم تلهث يوماً وراء نوع محدّد من الأدوار أو حتى وراء شيء في المطلق. فبالنسبة إليها، المسألة برمتها تتعلَّق بلقاءات المخرجين والدخول في عوالمهم. وهذه مقاربة فرنسية جداً للسينما، إذ إنّ ما يحدث خلف الكواليس من تجارب بأهمية ما يحدث على الشاشة. تؤكّد أوبير بلا تردُّد: “يكمن السحر كلّه في تلك اللحظة التي يلتقي فيها المخرج بالممثّل، ويتشكّل بينهما عالم مشترك”. 

تكريم أوبير أضحى مناسبة لإعادة عرض “بوابة الجنّة” (1980)، رائعة مايكل تشيمينو التي اشتهرت بإخفاقها بقدر ما عُرفت بعظمتها السينمائية. تجربة تراها أوبير استثنائية على جميع المستويات. “صوّرنا لـ7 أشهر في المونتانا. لم يأتِ النجاح إلا بعد مرور أعوام طويلة. عرضه الأول كان كارثة. “النيويورك تايمز” كتبت يومها: “كارثة لا لُبس فيها”. فكان من البديهي أن يُحبَط الناس ويصرفون النظر عنه. أظن أنّ تشيمينو لم يتعافَ تماماً من ذلك الإخفاق. كان فشلاً مؤلماً. مع مرور الزمن، كلما عدتُ إليه، ازددتُ يقيناً بأنه عمل جريء، لا يهادن، لا يسعى إلى استرضاء الجمهور. فقد كان الفيلم مهتماً بمخاطبته، ولكن بشروطه الخاصة. أما بُعده السياسي، فقد جعله عسير التلقّي في الثمانينات. لو أُتيح له أن يُعرَض اليوم، لوجدت أفكاره صدى أعمق عند الناس. ففي تلك الأيام، صعَّب التزاوج بين خطابه السياسي الحادّ وشكله الفنّي، على الجمهور أن يواكبه أو يحتضنه”.

 

مع ساندرين بونير في ”الاحتفال“.

مع ساندرين بونير في ”الاحتفال“.

 

لاحظ أحد الصحافيين أن أداءها يوحي بأنه يسهل عليها التمثيل. طرح عليها سؤالاً عن تلك “الخفّة الناتورالية” التي تميزها فعلاً، والتي جعلت التمثيل لديها أشبه بشربة مياه. فما كان منها الا أن وافقت على هذا الوصف، بالقول: “ربما لأنني أفعل ذلك بحبّ، فيبدو انه سهل. لم يكن أداء هذا النوع من الشخصيات كتلك التي أجسّدها في “المستقبل” لميا هانسن لاف، أمراً شاقاً عليّ. يسرّني أنك ذكرته، هذا فيلم مشرق، كلّه أمل، ومنفتح على الحياة. أحببتُ العمل عليه كثيراً. فالتعاون مع أشخاص مثل ميا لا يحمل أي صعوبة. الصعوبة الحقيقية هي أن تعمل مع مَن لا تفهمه أو لا تثق به. الثقة هي الكلمة الجوهرية بين الممثّل والمخرج، وبين الممثّل والفيلم نفسه. من دونها، لا يمكن لشيء أن يحدث”.

مخرج آخر ذو شأن كبير ذُكِر أثناء أحد اللقاءين: كلود شابرول الذي أدارها في سبعة أفلام وأكثر من وظّف اللمسة الأوبيرية. “فيلمه “الاحتفال” بالغ الأهمية لي. الصراع بين الخير والشر يهيمن على نسيجه، فيما تتجلّى فيه أيضاً الطبقية بأقصى حدّتها. فالتفاوت الاجتماعي يمكن أن يفضي إلى عنفٍ متفجّر، والفيلم يحاول أن يجعلنا نفهم هذا العنف، من دون أن يبرّره. ورغم هذا كله، لا يخلو العمل من بُعدٍ ساخر. أحببتُ كلّ الأفلام التي جمعتني بشابرول، لأنها تتيح الحديث عن عنف المشاعر، وعنف العيش المشترك، من دون أن تكون مثقلة أو خانقة. شابرول مخرج سياسي، كما أنّ السينما في جوهرها فعل سياسي. كانت له نظرة نافذة ورؤيوية، قدّم نقداً لاذعاً للعالم الذي نحيا فيه”. 

 

مجسدةً دور إريكا في ”عازفة البيانو“.

مجسدةً دور إريكا في ”عازفة البيانو“.

 

يصعب الحديث عن أوبير من دون ذكر النمسوي ميشائيل هانيكه الذي أعطاها أحد أروع أدوارها: إريكا في “عازفة البيانو”. تتذكّره بالقول: “لم يكن هدفي يوماً أن أبحث عن أشخاص “محبوبين”. ولا أظن أنّ هانيكه نفسه يكترث ما إذا كنت أراه لطيفاً أم لا. إنه مخرج استثنائي، يولّد في أفلامه توتّراً مستمراً لا يهدأ. أعظم أفلامه هي تلك التي تُبقي المُشاهد على حافة مقعده، في حالة من الترقّب، لأنّ غياب التوتّر يعني غياب الاهتمام. يسعى دائماً إلى الكثافة والتراجيديا. في “عازفة البيانو”، هناك مشهد أقف فيه أمام نافذة، وظهري إلى الكاميرا. مشهد خالٍ من الحوار، لكنه يقول الكثير“.

صحيح ان أوبير عُرفت من خلال السينما، لكنها ممثّلة مسرح حيث أدّت عشرات الأدوار. “المسرح مرهق، جسدياً وذهنياً. أما التمثيل فيه، فيتطلّب وعياً كاملاً وتركيزاً مستمراً، لأن كلّ حركة يمكن رؤيتها. وإذا استطعتَ تجاوز الارتباك الذي يرافق البداية، فيصبح عالماً ساحراً. يختفي الجمهور، ويولد عالم متخيل تسوده عزلة جميلة. هذا إحساس رائع. لا يمكنك أن تظلّ تفكّر بوجود الجمهور، عليك فقط أن تعيش التجربة بكلّ ما فيها من كثافة وصدق. المسرح جعلني أتأمّل في كيفية نشوء العالم. في البداية، لا يوجد سوى خشبة عارية، ثم يبدأ كلّ شيء في التشكّل. الفضاء يكون فارغاً، خالياً، ثم يتفتح ببطء ليصير كوناً. لم أفرّق يوماً بين التمثيل في المسرح وفي السينما. منذ بداياتي، قدّمتُ عروضاً مسرحية مع أشخاص مذهلين، مثل أسطورة المسرح الألماني بيتر زاديك. كان الجوّ حميمياً جداً. ومع الوقت عُرضت عليّ أدوارٌ أكثر تطلّباً، منها مع روميو كاستيلوتشي. ومع ذلك، لم أشعر يوماً أن ثمة حداً فاصلاً بين المسرح والسينما. عندما مثّلتُ في مسرحية “ذهان 4:48″ لسارا كين، بعض المشاهدين شعروا بالانقباض، إذ أيقظتُ فيهم إحساساً بنهاية وشيكة. كان ثمة عنفٌ كامن، وكنتُ أغتسل بضوء ذلك العنف وأستسلم له. أما الإضاءة في المسرح، فقد كانت تمنحني شعوراً بأنني أشرع في رحلة بعيدة، نحو مكان غامض لا يُعرف له مدى”.

 

أحدث أدوارها في ”أغنى سيدة في العالم“.

أحدث أدوارها في ”أغنى سيدة في العالم“.

 

ما الذي تغيّر بين الأمس واليوم في واقع السينما؟ تردّ أوبير بأنه لم يتغيّر الكثير، أقلّه بالنسبة إليها. ولا تظنّ أنها تغيّرت هي أيضاً: “لا أزال أملك الفضول نفسه تجاه الناس والمخرجين من ثقافات مختلفة. ما تغيّر فعلاً هو وسائل مشاهدة الأفلام. اليوم، يمكن الاطلاع عليها بطرق كثيرة، لكن بالنسبة إليّ، لا وجود حقيقي للسينما إلا في صالة عرض وعلى شاشة كبيرة. في هذا المكان وحده، تتجسّد السينما بكلّ معانيها. أما مشاهدتها في أماكن أخرى، فليست سوى تجربة مختلفة تماماً”. 

أوبير التي تعترف انها لا تتخيّل حياتها من دون كتب وأفلام ومسرحيات، ترى ما الذي يحفّزها على الاستمرار؟ ترد: “انه البحث الدائم عن المجهول. فكلّ فيلم جديد لي هو قفزة في المجهول، وهذا بالضبط ما أبتغيه وأحصل عليه في كلّ مرة“.