ديفيد سزالاي خلال حفل توزيع جائزة بوكر، 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025 (الأناضول)

من مراهقٍ دخل سجن الأحداث لأعوام في وطنه هنغاريا، إلى رجل شارك في حرب العراق ثم انتقل إلى لندن حيث حقق السلطة والمال هناك، يعيش استيفان حياةً مليئة بالتناقضات، مُحاولاً الحفاظ على توازنه في ظل الصدمات المتتالية، مما يقوده إلى أن يعود إلى بلاده باحثاً عن أمه، التي تموت لاحقاً، لتفشل محاولته الأخيرة في كسر عزلته وإيجاد معنى لحياته، كما صوّرها الروائي ديفيد سزالاي، الفائز بجائزة البوكر أول أمس الثلاثاء في روايته “لحم” (منشورات سكريبنر، 2025).

الغربة والمعنى

يقدم ديفيد سزالاي بطله استيفان في مراحل عمرية مختلفة، أولها وهو فتى عمره خمسة عشر عاماً يعيش مع والدته في هنغاريا، ويعاني العزلة بعد انتقاله معها إلى مجمع سكني جديد، مما يدفعه نحو خوض علاقة حب تنتهي بموت زوج المرأة التي أحبها، فينتهي به الأمر إلى سجن الأحداث، لتبدأ حياته بالتغير.

يركز المؤلف منذ المرحلة الأولى على قرارات استيفان، الذي بدأ في البحث عن الحب، ليجد نفسه في السجن، ثم خرج بعدها باحثاً عن وظيفة ليصطدم بحقيقة أنه مرفوض اجتماعياً، مما دفعه إلى الانخراط في الجيش، والكتيبة الهنغارية التي انضمت إلى التحالف الأميركي في حرب العراق، لكن سزالاي لا يركز على هذه التحولات الكبرى وتفاصيلها، بل يرسم من خلالها ملامح شاب حاضر جسدياً في مكان وزمان فرضتهما عليه الظروف بما يتعارض مع مشاعره وأفكاره.

تجارب بطله وخسائره هي المعنى الحقيقي المتمثل في هذا النضج

هذا التعارض، يتضح أكثر في لغة الرواية التي يتحدث بطلها بأسلوب مختصر، فمثلاً، حين يُسأل ضمن معظم الحوارات، يجيب عن حدثٍ مهم أو حالة مرّ بها بكلمة أو اثنتين، مثل “لا أعرف”، أو “إن الأمر كان مقبولاً”، ورغم أن الإجابات تتطلب منه الكشف عن مشاعره، لا يقوم بالتعبير.

في مرحلة تالية من عمره، وبعد عودته من الحرب، يعمل استيفان في وظائف بسيطة، إلى أن يصبح حارساً خاصاً لإحدى العائلات المرفهة في لندن، مما يتيح له الانتقال إلى طبقة أعلى اجتماعياً واقتصادياً، إلا أن تطور حياته وحصوله على السلطة والمال، لا يغيران معضلته التي بدأت منذ انتقاله إلى لندن، فحياته مستمرة في التغير والحركة، لكنه يشعر بالغربة أولاً، ويفتقد المعنى ثانياً، وباحثاً عن هدف أسمى يؤمن به، يكتشف أنه غير قادر على الوصول إلى أي مكان.

الإنسان الذي تصنع الحياة ملامحه

طوال أحداث الرواية، يدخل استيفان العديد من العلاقات ويمارس تفاصيل الحياة اليومية، لكنه يظل حاضراً بجسده فقط، أما أفكاره فتعلق ضمن سؤال وجودي لا يجد إجابة له، وهو: يعيش الإنسان ويعمل ويتحرك، ولكن، هل يحيا حقاً؟ وبهذا تتجلى معاناة البطل الباحث عن التأقلم والقبول، في التأرجح بين العثور على معنى لحياته، أو الانجراف في تحقيق المال والأرباح، وإهمال السؤال وما قد تسببه إجاباته من معاناة له.

يعود استيفان في النهاية إلى العيش مع أمه، وكأن عدم عثوره على إجابات لأسئلته ينتهي به إلى مآلات ساخرة وربما محزنة، تتمثل في الرجوع إلى نقطة البداية، بعد أن عاش حياة مليئة بردات الأفعال، من دون أن يكافح بما يكفي لتحقيق ذاته التي تلاشت خلال رحلته بحثاً عن إجابات، ليصبح شخصاً آخر ناضجاً، من دون أن يشي الكاتب فيما إذا كانت تجارب بطله وخسائره هي المعنى الحقيقي المتمثل في هذا النضج.

بطل من روايات سابقة

مستفيداً من كونه وُلد في مونتريال ونشأ في لندن ويحمل جذوراً هنغارية، إضافة إلى إقامته في فيينا، قدّم ديفيد سزالاي خمسة أعمال سابقة ركز خلالها على الحياة في أوروبا المعاصرة، ومواضيع الهوية والهجرة، ففي روايته الأولى “لندن والجنوب الشرقي” الصادرة عام 2008، يروي حكاية مندوب إعلانات يدخل في صراع يتجسد عبر انهيار قيمه ومبادئه في مواجهة عمله ومتطلباته الخاضعة لثقافة السوق والاستهلاك، مما يجعله شخصية تحتمل السخرية والألم معاً، من خلال ما يواجهه في أثناء رحلته للبحث عن حل لمأزقه الوجودي الذي يتحول إلى حالة يومية تتمثل في الوظيفة وتبعاتها.

تركّز معظم رواياته على الرجل مقابل شخصيات نسائية ضبابية

أما روايته التي نشرت عام 2018، وهي “الاضطراب”، فإنها تسلط الضوء على مجموعة من الأشخاص تجمعهم رحلة طائرة، ومن ثم تتشابك حكاياتهم من بين الرحلات والمطارات، وصولاً إلى اكتشاف أبطالها أنهم غير قادرين على التواصل مع الأشخاص المحيطين بهم بسهولة، كما أن عدم قدرة كل منهم على ملاحظة الآخر، في العمل أو البيت أو أمكنة أخرى، يعني مقدار الإهمال والعزلة والتفكك الذي يطاول الفرد والمجتمع.

أما روايته الأكثر قرباً من عمله الذي نال الجائزة، فهي “الربيع”، وصدرت عام 2011. وفيها يتتبع سطوة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تجبر الأفراد على الالتزام بأنماط حياة مليئة بالجمود الثقافي والعاطفي بعد الفشل في التغيير، مما يقود أبطال الرواية إلى الاستسلام لأسلوب حياة لا يريدونه، لكنه يفرض نفسه لأنه من دون بديل. 

هذا كله، يجعل من شخصية استيفان، نموذجاً يجمع العديد من صفات أبطال سزالاي السابقين، وذلك من خلال التكثيف واللغة المباشرة التي لا تركز على المشاعر، لتجسد بطلاً يقارع الحياة بحثاً عن معنى لذاته وهدف لوجوده، إلا أنه يظل خاضعاً لقوانين المجتمع وسلطة النظام الاقتصادي وعامل الوقت الذي يدرك البطل أنه يستنزفه، إذ يستغرق معظم حياته محاولاً الوصول إلى نتيجة ما، ولا يعرف إذا ما كان سيتقبلها في النهاية أم لا.

لكن رواية “لحم”، لا تشكل تتويجاً لأفكار المؤلف وأعماله فقط، إنما تجسد شخصياتها ذروة الذكورية التي لطالما أشار إليها نقّاد أعماله، إذ وصفت بتركيزها على الرجل في ظل شخصيات نسائية ضبابية، لا تتطور على مدى امتداد الرواية، بقدر ما تلعب دوراً مكملاً للشخصية الرئيسة، التي تعاني وتعيش مآسيها، مما قد يقود القارئ إلى التعاطف معها دون غيرها.

سزالاي الذي تُرجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة، ورُشّح سابقاً لجائزة البوكر عام 2016 عن روايته “كلّ ما هو عليه الرجل” قال، خلال حوار معه نشر منتصف أغسطس/ آب الماضي، إنّ ما ألهمه لكتابة روايته هذه، كان “انضمام هنغاريا إلى الاتحاد الأوروبي، مما قاد إلى خيار أمثل هو كتابة رواية عن أوروبا المعاصرة، وعن الانقسامات الثقافية والاقتصادية التي تُمَيِّزها”.