بين أزيز الرصاص وتفاقم الأوضاع الإنسانية في السودان، يعيش ملايين الأبرياء من أبناء الشعب الواحد مأساة متجددة منذ اندلاع النزاع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع. خلفت الحرب آلاف القتلى وملايين النازحين، وتهدد بانقسام السودان وتفكك مؤسساتها في أخطر أزمة تمر بها البلاد منذ الاستقلال.

وفي خضم هذه الفوضى، برزت دولة الإمارات العربية المتحدة ركيزة فاعلة في الرباعية الدولية المعنية بالسودان «الإمارات، مصر، السعودية، الولايات المتحدة»، إذ دفعت جهودها الدبلوماسية المتواصلة نحو وقف إطلاق النار وإطلاق مسار سياسي يضمن وحدة السودان واستقراره.

جمعت الجهود الإماراتية بين التحرك السياسي والالتزام الإنساني، من خلال دعمها المتواصل لجهود «جدة» ومشاركتها في الاجتماعات الرباعية في واشنطن، بالتوازي مع إطلاق أكبر جسر إغاثي عربي، وتقديم مئات الملايين من الدولارات كمساعدات طارئة. هذه المقاربة المتوازنة جعلت من الإمارات شريكاً موثوقاً في مساعي السلام، وصوتاً عربياً فاعلاً في مواجهة النزيف السوداني.

دور محوري

يرى محللون وخبراء في الشؤون الأفريقية أن دولة الإمارات، من خلال عضويتها الفاعلة في الرباعية الدولية المعنية بالسودان، لعبت دوراً محورياً في نقل الجهود من مرحلة البيانات السياسية إلى خطوات عملية قابلة للتنفيذ. فقد دفعت باتجاه صياغة خارطة طريق لبدء «هدنة إنسانية» تمهد لوقف دائم لإطلاق النار، مقرونة بآليات مراقبة لضمان التزام الأطراف وتعقب مسارات التمويل والسلاح.

كما عملت الدبلوماسية الإماراتية على تنسيق مواقف الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة، بما فيها الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية «إيغاد»، لتوحيد الجهود الرامية إلى تثبيت التهدئة وتهيئة بيئة مناسبة للحوار السوداني-السوداني. هذا التوجّه العملي أسهم في تحقيق توافق أولي حول مقترح هدنة إنسانية ميدانية، عده مراقبون مقدمة حقيقية نحو استئناف العملية السياسية.

دعم إنساني وتحرك دبلوماسي

وبحسب تقديرات خبراء المساعدات الدولية، نجحت الإمارات في ترسيخ نموذج مختلف في إدارة الأزمة السودانية يقوم على التكامل بين الدعم الإنساني والتحرك الدبلوماسي. إذ تجاوزت نهج «الإغاثة التقليدية» إلى تصميم آليات رقابة ميدانية تضمن وصول المساعدات إلى المستحقين.
ومنذ اندلاع النزاع، تجاوزت قيمة المساعدات الإماراتية المباشرة وغير المباشرة 600 مليون دولار، شملت إنشاء جسر جوي إغاثي متواصل، وإطلاق مبادرات غذائية وطبية عاجلة، إلى جانب دعم برامج الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية العاملة داخل السودان وفي دول الجوار المستضيفة للنازحين. وتؤكد هذه السياسة أن العمل الإنساني بالنسبة للإمارات ليس عملاً موازياً للجهد السياسي، بل جزء منه، بما يخلق بيئة ضاغطة على الأطراف المتحاربة لوقف النار وتسهيل عبور المساعدات بأمان.

وقد ربطت الإمارات بين الدعم الإنساني ووقف النار باعتبار أن استمرار القتال يشكّل عائقاً أمام وصول الغذاء والدواء إلى المدنيين. فقد أعلنت الدولة حزماً تمويلية كبيرة تصل إلى مئات الملايين من الدولارات منذ اندلاع الأزمة، مع تخصيص شقّ رقابي لتعزيز الشفافية في التوزيع.

هذا الربط بين البُعدين السياسي والإنساني يُظهر أن نهج الإمارات لا يقتصر على رفع المساعدات، بل على إحداث بيئة ضاغطة عملية على أطراف النزاع لضمان التهدئة.

لكنّ التحديات القانونية والإعلامية لم تغِب عن الصورة. إذ انطلقت بعض الاتهامات بمزاعم دعم لوجيستي أو تمويلي من جهات عربية للسودان. وفي هذا السياق، أكدت الإمارات التزامها بالشفافية، وطلبت فتح تحقيقات مستقلة بالموضوع.

وفي المقابل، يرى بعض المحلّلين أن هذه الشفافية والاستجابة هي ما يعزّز مصداقية الإمارات كوسيط موثوق ومشارك بناء.

معادلة عربية دولية معقّدة

يرى الدكتور أشرف سنجر، أستاذ السياسات الدولية، أن السودان يعيش اليوم واحدة من أكثر لحظاته التاريخية تعقيداً منذ الاستقلال، حيث تشهد البلاد تصعيداً غير مسبوق في إقليم كردفان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وهو ما يعكس هشاشة البنية العسكرية والسياسية بعد سقوط نظام البشير. ويؤكد أن الأزمة الحالية تتجاوز مجرد صراع على السلطة، لأنها تدور بين أبناء وطن واحد تختلف رؤيتهم لمستقبل السودان؛ فكل طرف يعتقد بأنه الأقدر على إعادة بناء الدولة وفق قناعاته الخاصة. ويشير د. سنجر إلى أن الانقسام العسكري والمؤسسي العميق الذي أحدثه تمدد قوات الدعم السريع منذ منْحها الرتب العسكرية بعد سقوط البشير، شكّل أحد أبرز التحديات أمام الجيش النظامي. فبينما لا تتكافأ القوة النظامية للجيش مع تشكيلات الدعم السريع، فإن توازنات الصراع الداخلي أضعفت القدرات الكلية للدولة السودانية، سواء في مؤسساتها المدنية أو في جهازها التنفيذي والعسكري.

ويضيف إن استمرار القتال بهذه الوتيرة ينذر بكارثة إنسانية حقيقية، إذ تجاوز عدد النازحين داخلياً 11 مليون شخص، فيما وصل عدد من فرّوا إلى الخارج إلى نحو 3 ملايين سوداني، وهو ما جعل الأزمة ذات طابع إنساني بامتياز تمسّ البنية الاجتماعية والإقليمية لدول الجوار، وفي مقدمتها مصر.

منعطف حاسم

ويعد د. سنجر أن التحرك العربي بقيادة الإمارات والسعودية ومصر، وبالشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية، شكّل منعطفاً حاسماً في محاولة وقف النزيف السوداني. ويذكّر بإعلان «جدة» الذي أُطلق في مايو 2023 وبدأ تنفيذه في 22 مايو من العام نفسه، مؤكداً أنه كان أول إطار عملي حقيقي لإرساء هدنة إنسانية، رغم انتكاس الالتزام به لاحقاً من قبل الطرفين.

ويوضح أن الرباعية العربية – الدولية اجتمعت لاحقاً في واشنطن بحضور مبعوث الشؤون الأفريقية الأمريكي «موسى بولوس»، لمواصلة الضغط الدبلوماسي بهدف وقف إطلاق النار وضمان إيصال المساعدات ووقف تدفق السلاح، معتبراً هذا التنسيق المستمر دليلاً على إرادة مشتركة بين الدول الأربع لإنقاذ السودان من الانقسام الكامل.

ويشدد أستاذ السياسات الدولية على أن الجهد الإماراتي والمصري والسعودي في هذا الملف ليس تحركاً نفعياً أو مصلحياً كما يروّج البعض، بل يأتي من منطلق إدراك عميق لخطورة تفكك السودان على الأمن القومي العربي والإقليمي. فكل هذه الدول – كما يقول – تدرك أن استمرار الحرب لن يصيب السودان وحده، بل سيمتد أثره إلى محيطه الجغرافي والسياسي.

ويضيف إن التقارب العربي – الأمريكي في هذه الأزمة يُعد مؤشراً إيجابياً إلى عودة الدبلوماسية التوافقية إلى المنطقة، وخصوصاً مع اهتمام متزايد من الإدارة الأمريكية بإنهاء الحرب وتحقيق تسوية شاملة تعيد دمج قوات الدعم السريع ضمن المؤسسة العسكرية، وصولاً إلى دولة سودانية موحدة ومستقرة.

ويختم د. سنجر تحليله بالتأكيد أن السودان يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم: إما انتصار أحد الأطراف في «معركة صفرية» ستُغرق البلاد في الفوضى، أو نجاح الجهود الرباعية في فرض مسار سياسي جامع يضمن وحدة السودان واستقراره.

ويرى أن التحرك العربي بقيادة الإمارات ومصر والسعودية، بالتنسيق مع واشنطن، هو الأمل الأخير لتفادي الانهيار الكامل، وإعادة بناء الثقة بين المكونات السودانية، بما يصون مقدرات الشعب الذي «عانى وما زال يعاني من حربٍ أهلية ضروسٍ لا غالب فيها ولا منتصر».

عملية سلام مستدامة

ورغم التحديات التي واجهت الدور الإماراتي، وخصوصاً بعض الاتهامات والتضليل ومحاولات التشويه، التزمت الدولة نهج الشفافية والوضوح. فقد بادرت إلى الرد الرسمي على تلك الادعاءات ودعت إلى فتح مسارات تحقيق موضوعية ومستقلة بإشراف أممي لضمان النزاهة.

تقارير مراقبين دوليين أشارت إلى غياب أدلة قاطعة على صحة الاتهامات المتداولة، مؤكدة أن التعامل الإماراتي مع الملف اتسم بالمسؤولية والدعوة للوضوح والمساءلة.

هذا الموقف، بحسب خبراء القانون الدولي، يعكس حرص الإمارات على ترسيخ صورتها كوسيط نزيه وشريك موثوق في جهود السلام الإقليمي، بعيداً عن التجاذبات السياسية التي كثيراً ما تُعقّد أزمات القارة الأفريقية.

ويتفق محللون سياسيون على أن الدور الإماراتي سيكون أكثر تأثيراً في المرحلة المقبلة لأنه يجمع بين الدبلوماسية الهادئة والمبادرات التنموية داخل السودان. ويقترح خبراء أن تدعم الإمارات، بالتعاون مع الرباعية، إنشاء آلية مراقبة مشتركة بإشراف الأمم المتحدة لمتابعة التزام الأطراف بالهدنة، إلى جانب تعزيز تمويل البرامج التعليمية والصحية والمجتمعية التي تُعيد بناء الثقة بين المكونات السودانية. كما يشير مختصون إلى أن تجربة الإمارات في حل النزاعات بالوساطة والتنمية، كما في اليمن وإثيوبيا، تمنحها رصيداً يمكن البناء عليه لتحويل وقف إطلاق النار من خطوة إنسانية مؤقتة إلى بوابة لسلام دائم يضع السودان على طريق الاستقرار.

المخرج والملاذ

في السياق ذاته، يؤكد خبير العلاقات الدولية د. أحمد فؤاد أنور أن دولة الإمارات، بالتوافق الدائم مع الأشقاء في القاهرة والرياض، ترى في الحلّ السياسي المخرج والملاذ للشعب السوداني، وأن تكثيف الجهود من أجل وقف معاناة المدنيين — سواء بالتجويع أو الاعتداءات المباشرة — له الأولوية، نظراً لأنه «يقطع الطريق على مخططات تقسيم السودان».

ويضيف: «ما سيترتب على تقسيم السودان من ارتدادات سلبية على الإقليم واستقراره، متمثلة في لاجئين غير شرعيين برياً وبحرياً، يشكّل ضغطاً مستمرّاً على استقرار المنطقة».

ويلاحظ أن الإمارات ومصر، وبما لهما من علاقات تاريخية وأوجه تعاون متعددة، كثّفتا مؤخّراً جهودهما لإبرام وقف إطلاق نار بات «في المتناول»، ثم العمل على تثبيته لمدّة قد تصل إلى تسعة أشهر، يتم خلالها وقف الحملات الإعلامية وبدء مفاوضات جادّة لإنهاءِ الحرب بالكامل في السودان.

ويستهِل أن تجارب التقسيم السابقة — في جنوب السودان أو حتى ليبيا وسوريا — تُظهر أن الأغلبية في السودان ودول الجوار، وربما تشكيلات في الإدارة الأمريكية، تعمل بوتيرة أكبر على إنجاز وقف إطلاق النار والانخراط في مفاوضات جدّية، لأن الأوضاع الاقتصادية والأمنية في تلك البلاد التي تعرضت أو تتعرض لمخطط تقسيم «تعاني بشدة وتتعرّض لمخاطر خارجية باستمرار بسبب ضعف الجبهة الداخلية وسهولة اختراقها».

إدانة الجرائم بحق المدنيين

ويرى خبير العلاقات الدولية د. أحمد فؤاد أنور أن الإمارات ومصر «متفقتان على إدانة الجرائم بحق المدنيين والانتهاكات المتكرّرة»، وتُدركان — بعد جهود طويلة ومثابرة — إمكانية تحقيق تقدم قريب في التفاوض من خلال «الآلية الرباعية» المقبولة من جميع أطراف الأزمة، ما ساهم في استمرار عودة السودانيين من مصر إلى السودان حتى بعد معارك الفاشر خلال الأسابيع الماضية. ويخلص إلى أن ما يدعو للتفاؤل هو «زيادة وتيرة الاتصالات والمشاورات واستمرار البحث عن توسيع نطاق الرباعية، بشكل دائم أو مؤقت، ليشمل أيضاً قطر وبريطانيا، مع فتح الممرّات الإنسانية وتسهيل وصول المساعدات إلى المتضرّرين».