جُرحٌ أم شمس مُحمَرّة لحظة الغسق؟ هكذا نجدُنا نتشارك مع الناقد طارق العريس في تساؤله، ونحن نقرأ تقديمه لمعرض الفنان اللبناني عبد القادري الجديد؛ إذ كيف نُفسّر حقّاً تلك الدائرة التي يوقّع من خلالها أعمالَه وهي تلتبس علينا في حدودها بين العام والخاص؟ نقف أمام هذه الإشارة الحمراء، وهي تطلّ من بين طيّات لوحاته التجريدية، محاطةً بخيالات نحسبها أشجاراً وطيوراً وبيوتاً، لا تتطلّب رؤيتُها منّا – تمام الرؤية – سوى أن نُغلق أعيُننا، في مفارقة اختارها القادري عنواناً لمعرضه “أَغمِضْ عينيك حتى تراني”، المقام في غاليري تانيت ببيروت حتى 11 الشهر المُقبل.
على غرار “شمس” كلود مونيه التي رسمها الفنان الفرنسي في لوحته المعروفة “انطباع، شروق الشمس” عام 1873، ومنحت الحركة الانطباعية اسمها في معرضها الأول الذي أُقيم عقب سنتين في باريس، تنبثق “شمس” القادري من تجربة داخلية حفرت عميقاً في نفسية الفنّان اللبناني، وهي انفجار مرفأ بيروت قبيل مغيب شمس الرابع من أغسطس/ آب 2020، وقد تركت أثرها بجراح جسدية. هذه الدائرة الحمراء، التي نشأت من لحظة كارثية تختلط فيها نهاية اليوم بنهاية العالم، تحوّلت بالتالي إلى نقطة توقيع شخصية وعلامة جمعية على الفقد.
تجاوز البصر إلى البصيرة (العربي الجديد)
رغم ذلك، سرعان ما تتجاوز لوحات صاحب معرض “تحت ماكينة الخياطة” (ميونخ، 2023) الحدّ الأوّلي الذي انطلقت منه، أي الانطباع والتأمّل بما هو موقف صوفيّ من الوجود، إن جاز القول، لتمتزج بحدٍّ آخر أقسى منه، وهذا الحدّ هو المُشكِّل الأساسي لرؤيته، إنه الواقع، وقد صاغه الفحم وأقلام الباستيل على الورق والقماش في “قصائد قصيرة” كما يُعنون سلسلةً من اللوحات أنجزها في باريس خلال السنوات الأخيرة، في محاولة لـ”تجاوز البصر إلى البصيرة”، وفقاً للتقديم.
تجربة تأخذ بُعداً ترميمياً لما هدّمته الحروب والإبادات فينا
وإذا كان القادري قد صاغ أجزاءً من عالمه باللون والفحم والباستيل، فهو يمدّ هذا العالم أيضاً إلى النحت، عبر تماثيل البرونز الصغيرة التي تُطلّ على هيئة طيور ذهبية. هذه الطيور، بما تحمله من هشاشة، تُقارب مفاهيم الشجرة والسماء والغابة بوصفها ممكنات للنجاة، وتمنح التجريد ضوءاً (حركياً) إضافياً يخرج من حدود اللوحة إلى الفضاء المحيط. إنها كائنات خاطفة لمّاحة أشبه بقصائد الهايكو، أو دلائل على حياة لا تزال قادرة على الارتفاع والنهوض رغم كل الخراب المُحيط.
جوانب من المعرض (العربي الجديد)
بهذا يصبح التداخل بين اللوحة والمنحوتة امتداداً لبحث القادري عن شكلٍ للتوازن، بعد اختلال وفوضى هيمَنا على حيواتنا. الطيور المثبتة على أعمدة رخامية، تُحيل أحياناً إلى أجواء الغابات أو مرافئ المدن التي تشبه بيروت نفسها، حيث تختلط حركة البحر مع حركة الطيور والناس. وهي بهذا المعنى تُعيد ترتيب العناصر في عمله، من الشمس الدائرة إلى الغروب الظلّ، وكل ذلك يشكّل معاً سرديةً بصرية للنجاة. وكأننا نقرأ، هنا، أحد مطالع الشاعر السويدي توماس ترانسترومر: “الشمس الآن على عُلُوٍّ منخفض/ ظلالنا عمالقة/ قريباً سيكون الظل هو كل شيء”.
تأخذ مشهدية الغسق قُطباً مركزياً في لوحة القادري، ووفقاً لهذا العامل يُمكننا أن نقرأ حدود الضوء عنده بوصفها لحظة تماسّ بين الأحمر من جهة، والمحيط الذي يغلب عليه الرمادي من أُخرى. في هذا الوقت المعلّق بين النهار والليل، يتبدّى الأحمر كـ”نبضٍ واحد” (عنوان إحدى اللوحات) يشهد على ما تبقّى من الجمال وسط خراب الحروب والإبادات. بهذا، يمكن القول إن الغروب عند القادري ممارسة لونية متطوّرة وجديدة داخل سياق عريض عالمياً (مارك روثكو مثلاً) ولبنانياً، إذ ينتمي الفنان إلى جيلٍ شابّ استوعب الإرث الحداثي الذي مثّلته تجارب الأجيال السابقة، كالفنّانات الراحلات هلين خال، وسامية عسيران، أو حتى إتيل عدنان، وكلّ هؤلاء قاربن، بشكل أو بآخر، موضوعة الشمس وحركتها وإشعاعها اللوني.
الفنّ فعلاً إنسانياً ومجتمعياً (العربي الجديد)
في نهاية المطاف، تبدو تجربة عبد القادري امتداداً متطوّراً لمسارٍ فنيّ يتقاطع فيه الشخصي بالجمعي، نستذكر هنا مشروعه “أودّ اليوم أن أكون شجرة”، الذي نفّذه قبل عام في الدوحة، خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، مكرّساً الوعي بدور الفن فعلاً إنسانياً ومجتمعياً. وكذلك هو الحال اليوم مع لوحاته التجريدية التي تنبض بالضوء، مؤكداً أن الفن قادر على أن يرمّم ما تهدّمه الحروب والانهيارات والإبادات من لبنان إلى غزة، ولو رمزياً. هكذا، يمضي الفنان اللبناني في خطّ متصل بين الشجرة والدائرة الحمراء، في توازن دقيق يُذكّر بأن النور، مهما خفت، لا ينطفئ تماماً.
