عادةً ما تستدعي ذكرى بابلو بيكاسو أعمالاً أيقونية كـ”غرنيكا” و”آنسات أفينيون”، بوصفهما محطتَين مفصليتَين في مسيرة الفنان وفي مسار الحداثة الأوروبية. لكن لوحات أخرى، أقل شهرة وأكثر خفاءً، مثل “استوديو برأس من الجص” (1925)، تكشف عن وجوه أخرى لبيكاسو غالباً ما بقيت خارج الضوء.

بهذه اللوحة يحتفي متحف بيكاسو في مالقة، جاعلاً منها محور معرض “بيكاسو: ذاكرة ورغبة”، المقام حتى الثاني عشر من الشهر المقبل، في قراءة تعيد الاعتبار لهذه القطعة الصغيرة التي تحمل طبقات عميقة من القلق والحنين والتحوّل.

اللوحة، التي بقيت لعقود شبه غائبة عن الوعي العام، تشكّل نواة مرحلة ستعيد تعريف مسار الحداثة بين عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. في قلب العمل يقف الرأس الجَصي، الذي اعتُبر طويلاً إحالةً إلى التقاليد الكلاسيكية، إلّا أنّ جذوره أكثر شخصية: فهو تذكير بالأب، أستاذ الرسم الذي دشّن بيكاسو في العالم الأكاديمي. إلى جانب ذلك، يظهر ظلّ يتقاطع مع بنية معمارية صغيرة تشير إلى ابنه باولو، ذلك المسرح الورقي الذي أنجزه له قبل سنوات. بين الأب والابن، بين ذكريات التكوين وأحلام المستقبل، تتشكل ثنائية “الذاكرة والرغبة” التي تشكّل محور المعرض وتتردّد أصداؤها في رؤية إليوت في “الأرض الخراب”: امتزاج الماضي بالحاضر، والحاضر بما لم يحدث بعد.

تعيد اللوحة تحديد مسار الحداثة في عشرينيات القرن الماضي

يمثّل هذا العمل منعطفاً نوعياً في علاقة بيكاسو بالكلاسيكية. ففي منتصف العشرينيات كان يبتعد تدريجياً عن “العودة إلى النظام” التي طبعت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، متوجهاً نحو فضاء أكثر تحرّراً وانفتاحاً على اللاوعي، وهو ما سيقوده لاحقاً إلى تخوم السريالية. ويبرز المعرض كيف أدّى هذا التحوّل إلى إعادة تعريف الرموز التقليدية: التمثال لم يعد مجرد تمثال صامت. أصبح كياناً نابضاً بالقلق.

اللوحة لا تقف وحدها في المعرض. أعمال جورجيو دي كيريكو تُجاورها، ومعها يتبدّى كيف استلهم بيكاسو من أفكار “التمثال الصامت”، لكنّه قلب مفهومها إلى داخل الذات. أعمال فرناند ليجيه تكشف التقاءً آخر، إذ عالج الفنان في الفترة نفسها مسألة الوجه المزدوج وتهشّم الذات الحديثة. أما سالفادور دالي فحوّل التمثال إلى رمز مسيحي متوتر، يشتبك مع صورته الذاتية في بدايات منهج “البارانويا الناقدة”. وتتجاوب هذه القراءات مع رؤى فيديريكو غارسيا لوركا حول انقسام الهوية والظلّ بوصفه كياناً موازياً للذات.

وتتعزز هذه المسارات بحضور أعمال كلود كاهون، التي أعادت عبر صورة التمثال التفكير في الجندر، وإيلين أغار التي قدّمت المرأة في السريالية فاعلاً لا موضوعاً للنظر، كما يلعب التصوير الفوتوغرافي دوراً أساسياً في بناء “أسطورة الظل” في الحداثة: أعمال كيرتيس وإيفانز وبرساي تُظهر كيف أصبح الظلّ رمزاً للذات الغائبة، وللمدينة بوصفها مسرحاً جديداً للرؤية.

في ختام المعرض، تقود صور برساي ودورا مار لاستوديو بيكاسو في بواجيلو إلى ما يشبه “أكاديمية بديلة”، إذ تتراص التماثيل الجصية كأنها تنساب خارج صمتها القديم، مؤكدة أن “استوديو برأس من الجص” بوابة لفهم بيكاسو من الداخل: بين الذاكرة والرغبة، بين الماضي والمستقبل، وبين الإنسان والرمز.