مساءلة للجمهور إن كان مقتنعاً هو الآخر بحريته (جوانب من العرض/ العربي الجديد)
في أواسط سبعينيات القرن الماضي، قدّم الكاتب والمخرج الأميركي وودي ألن مسرحيته “إله”، ومنذ ذلك الحين حظي العمل بتقديمات عديدة دون أن يفقد حيويته نموذجاً عن مسرح العبث. بعد نصف قرن، كأنما طيف ألن يعود ليتمشّى بكامل سخريته في بيروت، مع طبعة لبنانية من المسرحية، أعادت توليفها وإخراجها لينا خوري بعنوان “أبو الزوس”، وتتواصل عروضُها على مسرح غلبنكيان (حرم الجامعة اللبنانية الأميركية) حتّى 13 ديسمبر/كانون الأول الحالي. فهل سيعثر الكاتب هذه المرّة على “نهاية” لنَصِّه؟
لعبة بطبقات كثيرة
النهاية هي سؤال العمل الأساسي، ومشهده الافتتاحي الذي يجمع الكاتب هيباتايتس (طارق تميم) والممثل ديابيتس (سني عبد الباقي)، ومن هذا السؤال الوجودي يتشظّى النصّ سريعاً مع حشد من اللاعبين (24 ممثلة وممثلاً من خريجي الجامعة المذكورة) يتناوبون على “اقتحام” الخشبة، في محاولة لعدم التسليم بمصائرهم التي يحاول الكاتب أن يضعها. عجزُه عن رسم نهاية لنصه يقوده إلى الاستعانة بـ”أبو الزوس” كبير آلهة الإغريق، لكنّ الأخير لا يبدو أفضل حالاً منه، يموتُ تاركاً إياه مع شخصياته التي راح كلّ منها يرتجل على طريقته الخاصة، في إشارة تُحيل بوضوح إلى أطوار العنف البشري والسلطة والفوضى، بقدر ما تستلف، إلى حدّ ما، شيئاً من مقالة الناقد الفرنسي رولان بارت حول “موت المؤلف” التي راجت منذ أواخر الستينيات.
لينا خوري
تواصلت “العربي الجديد” مع المخرجة لسؤالها عمّا يتبقّى للمخرج حين يتفكّك النص وتتراجع سلطته داخل العرض: هل يبحث عن نظام خفيّ وسط الفوضى، أم يتعامل مع غياب النظام بوصفه جزءاً من اللعبة المسرحية؟ وحول هذا التساؤل توضّح خوري أنّ “المؤلّف والنص يشكّلان بالنسبة إليها فضاءً تدخل إليه لا لهدمه، بل لاكتشاف طبقاته”. وتُضيف: “في مسرحية ‘أبو الزوس’، يتعمّد وودي ألن المزج بين أنماط مسرحية متباينة: من العبثي إلى الملحمي عند بريخت، ومن مسرح داخل المسرح إلى الكوميديا والتراجيديا والموسيقى. ورغم أن النص قد يبدو متشظياً أو غير منطقي في ظاهره، إلا أنه يحافظ على تماسكه الداخلي لأنه لا يقدّم حكاية خطية تقليدية، بل يعكس عالماً تغمره الفوضى وتتقاطع فيه الحدود بين الحقيقي والمتخيَّل، والواقعي والعبثي، والإريقي واللبناني”.
تعكس عوالم تتقاطع فيها الحدود وليس حكاية خطية تقليدية
وتتابع: “هنا يأتي دور المخرج: أن يقدّم النص كما قصده المؤلف، لكن برؤيته وإيقاعه وإمضائه الفني. الإخراج هنا ليس ترتيباً للفوضى بقدر ما هو إدارتها بوعي وجمالية، وتفعيل كل عناصر العرض: من أداء الممثلين إلى الموسيقى والضوء والصوت والإيقاع العام، بأكبر قدر من الإبداع. فالمسرح يقوم دائماً على طبقات فكرية تتكشّف تدريجياً، سواء عند المخرج أو عند المتلقي، الذي يحمل بدوره خبرته وتفسيره الخاص، من دون أن يعني ذلك إنتاج قراءات متناقضة كلّياً. الأهم أن تصل الفكرة الجوهرية للعمل، أما عمق التلقّي وتدرّجاته فتختلف من شخص لآخر. الفوضى في هذه المسرحية ليست عيباً، بل مقصودة بالكامل، ودور المخرج هو ضبطها وصياغتها فنّياً، بحيث تتحوّل إلى تجربة لها منطقها الخاص وجماليتها الخاصة”.
يقوم العمل على مفاهيم مُركّبة: المسرح داخل المسرح، وكسر الجدار الرابع (إشراك الجمهور)؛ ولبننة نصّ ساخر ذي إطار إغريقي، ما يفرض تحدّيات وتكاليف إنتاجية غير قليلة، لكنه أيضاً عرضٌ جريء في كوميديته. وهذا ما نلحظه حين تتجاور شخصية كريستينا فلوطي (وفاء حلاوي)، الفتاة العفوية والجريئة، مع أُخرى تعدّ شديدة الأيقونية في سياق لبناني، كشخصية “هالة والملك” التي لعبتها هالة المصري في إشارة إلى مسرحية رحبانية معروفة. تكشف “أبو الزوس” حالة مجتمعية يمكن تسميتها بـ”الأبوزوسية” سائدة وتتغذّى على الخوف وانتظار الخلاص من خارج الذات، ويساهم الجميع فيها، ومن المفارقات أنه أثناء عرض المسرحية كانت هناك دعوات لمحاكمة كوميدي ساخر بسبب نكتة قالها.
من اليمين: طلال الجردي وطارق تميم وسني عبد الباقي (العربي الجديد)
الخشبة وسؤال الحرية
وتبيّن خوري في حديثها إلى “العربي الجديد” أن “‘أبو الزوس’ تضع الأنواع المسرحية جنباً إلى جنب كما تضع الأفكار الفلسفية في مواجهة بعضها. فالعبثية ليست مجرد تقنية مسرحية، بل رؤية للعالم، تتقاطع مع الوجودية السارترية التي ترى أن الإنسان لا يُعطى معنى جاهزاً، بل يصنعه عندما يختار مصيره بوعي. ففي اللحظة التي حاولت فيها شخصية العبد تقرير مصيرها داخل العمل تحوّل فيها الفكر إلى فعل فوق الخشبة”. كما ترى أن المسألة ليست بحثاً عن “أبو زوس” جديد أو عن رمز بديل، بل تفكيك الحاجة نفسها إلى أي سلطة ننتظر منها الخلاص. فـ”الحرية لا تأتي من الخارج، ولا من أي بنية رمزية اعتدنا الاحتماء بها، بل تبدأ لحظة نتوقف عن الانتظار لنواجه ما فُرض علينا اجتماعياً وسياسياً ودينياً، ونصنع معنىً ينبع من داخلنا”.
ختاماً، تُسائل “أبو الزوس” التصورات الثابتة والمتوقّعة (بما في ذلك داخل المسرح ذاته) عبر تقنية أثيرة عند المخرجة لينا خوري، سبق أن استحضرتها في أعمالها، كمسرحيتها “فيزيا وعسل” (مسرح المدينة، 2024)، الأمر الذي يُفسح المجال أمام الأداء وتعدّد الأدوار والأصوات والتخلّص من الخطوط المستقيمة، لكنها تذهب خطوة أبعد مع انفتاحٍ أكبر على الجمهور ومحاولة إشراكه في الإجابة عن سؤال المصير والنهاية، وإن كان مقتنعاً حقّاً بـ”حرّيته” و”قراراته”؟ بهذا، لا يبعد أن نقول إن من بين آلاف قطع النرد التي ختمت بها الممثّلة ريتا حايك (بطلة “فيزيا وعسل”) المشهد الأخير من المسرحية التي عُرضت العام الماضي، واحدٌ على الأقل قد وقع في يد المخرجة، لتحتفظ به في جُعبتها، قبل أن تُعيده إلى الجمهور مرّة أُخرى على هيئة عمل جديد ومُتمكّن.
